loading...

المشاكل الخاصة بالتحكيم في منازعات عقود الاستثمار

المشاكل الخاصة بالتحكيم في
منازعات عقود الاستثمار
تمهيد وتقسيم:
        
         لقد أثبت الواقع العملي أن التحكيم في منازعات عقود الاستثمار يصادف العديد من المشاكل الناجمة عن كون أن أحد أطراف العقد - وهو الدولة أو أحد الأشخاص المعنوية المنبثقة عنها - يتمتع بوضع مميز يسعى للحفاظ عليه سواء قبل بدء إجراءات التحكيم أو أثنائه أو حتى بعد صدور الحكم. إذ أن وجود الدولة كأحد أطراف النزاع يصبغ عملية التحكيم بصبغة خاصة([1]).

         وترتبط المشاكل التي يواجهها التحكيم الدولي الذي تكون الدولة أحد أطرافه في الغالب بتمسك الدولة بحصانتها سواء في مواجهة القضاء أو في مواجهة الحكم التحكيمي الصادر في مواجهتها، بالإضافة إلى ما قد تلجأ إليه الدولة من مناورات مربكة أو معطلة للعملية التحكيمية.


         وعلى الرغم من أن تلك المشكلات ليست مقتصرة على التحكيم الذي تكون الدولة أحد أطرافه، إلا أن فرص زيادتها وزيادة خطورتها تكثر بشكل ملحوظ في ذلك التحكيم أكثر من غيره. ولعل ذلك يرجع إلى حقيقة أن الدولة لها مفهوم مختلف تماماً للتحكيم كوسيلة لحل المنازعات، حيث يقول أحد الأساتذة في هذا الخصوص: " إن توقعات الدول وآمالها تختلف بشكل كبير عن أهداف الأطراف الخاصة التي تلجأ إلى التحكيم التجاري. وهنا قد يكون من المفيد تذكر أنه على العكس من موقف الطرف الخاص الذي يختار مرونة التحكيم كمهرب من المتطلبات المتشددة للتقاضي، فإن الدولة تنظر إلى التحكيم على أنه يعني فقدان حريتها وتقبل قيود هي متحررة منها في غالبية المواقف من ناحية أخرى "([2]).

         وأعرض في هذا المطلب من الدراسة لأهم المشاكل التي قد يثيرها اللجوء إلى التحكيم في منازعات عقود الاستثمار، وذلك من خلال فرعين على النحو التالي:

         الفرع الأول: المشاكل الناجمة عن التشكيك في قابلية النزاع للتحكيم.
         الفرع الثاني: المشاكل الناجمة عن تمسك الدولة بحصانتها.

الفرع الأول
المشاكل الناجمة عن التشكيك
في قابلية النزاع للتحكيم
         إن أي تحكيم، سواء أكان أحد أطرافه دولة أم لا، لا بد وأن يصادف العديد من المشاكل الناجمة عن محاولة طرف من الأطراف (والذي لا يكون من مصلحته اللجوء إلى التحكيم) إثارة العقبات حول بنود الاتفاق على التحكيم، وذلك أملاً في إحباط عملية التحكيم ككل وإعاقة هيئة التحكيم عن أن تصدر حكمها([3]).

         وتقوم هذه المحاولات في الغالب على التشكيك في صحة اتفاق التحكيم، وذلك من ناحية طبيعة ومهمة أحد الأطراف حيث أن هناك من الأشخاص الذين يثور بصددهم مدى جواز خضوعهم للتحكيم، أو من ناحية موضوع النزاع فهناك من الموضوعات التي لا يجوز أن تكون محلاً للتحكيم([4]).

         وإذا ما كانت هذه المحاولات قد تمت من قبل دولة أو حكومة ما فإنها تستند حينئذ على ما يلي:
أ- بموجب قانونها الوطني فإن الدولة لا تملك الأهلية أو القدرة الكافية على الدخول في اتفاق تحكيم.
ب- بموجب قانونها الوطني فإن الموضوع محل النزاع لا يجوز النظر فيه أمام التحكيم.

         وأعرض فيما يلي لهذه المحاولات التعطيلية للعملية التحكيمية، والمتخذة من جانب الدولة، ولمدى مشروعيتها:

أولاً- التشكيك في أهلية الدولة أو قدرتها الكافية على اللجوء إلى التحكيم:

         بدايةً لابد من الإشارة إلى أنه لما كان التحكيم لا يكون إلا اختيارياً برضاء الأطراف، فإن مسألة التشكيك في أهلية الدولة أو قدرتها على اللجوء إلى التحكيم لا تثور إلا إذا وجد اتفاق بين الدولة أو إحدى الهيئات أو المؤسسات التابعة لها على اللجوء إلى التحكيم بصدد عقد من العقود التي أبرمتها تلك الجهات. حيث تسعى هذه الجهات إلى التخلص من اللجوء إلى التحكيم، متذرعةً بعدم أهليتها أو بعدم توافر القدرة الكافية لها من أجل اللجوء إلى التحكيم، مستندةً في ذلك إما إلى أن قانونها الوطني لا يعترف بشرط التحكيم في هذا النوع من العقود (أ)، وإما إلى أن أحكام القانون الوطني الذي تم تعديله بعد الاتفاق على التحكيم أصبح لا يجيز لجوء الدولة إلى التحكيم في مثل هذه العقود (ب).

أ- فقد تتمسك الدولة الطرف في عقود الاستثمار، في سبيل التخلص من التزامها الذي اتفقت عليه مع المستثمر الأجنبي باللجوء إلى التحكيم، بأن أحكام قانونها الوطني الذي تم إبرام الاتفاق على التحكيم أثناء سريانه يحظر على الدولة أو هيئاتها العامة اللجوء إلى التحكيم، مما يجعل هذا الاتفاق باطلاً. حيث تتضمن العديد من الأنظمة القانونية نصوصاً تقيد أو تستبعد المنازعات التي تكون الدولة ذاتها أو مؤسسة عامة أو هيئة عامة طرفا فيها من الخضوع للتحكيم، وتجعل الاختصاص بنظر المنازعات التي تكون هذه الأشخاص طرفاً فيها للقضاء الوطني، بل ويحدد بعضها اختصاص جهة القضاء الإداري بهذه المنازعات على نحو قاصر عليه([5]).

وقد أثبت العمل الدولي في عدد غير قليل من الحالات التجاء الدولة المعنية إلى إنكار شرط التحكيم الذي سبق لها قبوله بدعوى عدم جواز اتفاقها على التحكيم وفقاً لقوانينها الداخلية([6]). وهو ما اضطردت أحكام المحاكم وكذلك هيئات التحكيم على رفضه.

فقد انتهت محكمة النقض الفرنسية في حكمها الصادر في 2 مايو 1966 في قضية San Carlo إلى عدم سريان الحظر الوارد في قانون المرافعات الفرنسي على الدولة والوحدات العامة في قبول شرط التحكيم في إطار العلاقات الدولية([7]).
        
وكذلك أيضاً في قضية Calakis ذهبت محكمة النقض الفرنسية إلى أن محكمة استئناف باريس كان عليها فقط الفصل في مسألة ما إذا كانت القاعدة المصاغة لحكم العقود الداخلية يجب أن تطبق أيضاً على العقد الدولي المبرم من أجل احتياجات التجارة ووفقاً للشروط التي تتطلبها عادات التجارة البحرية. الأمر الذي أجابت عليه المحكمة العليا بالنفي، إذ قضت بأن الحظر المذكور لا يعمل به بصدد العقود الدولية، وهو ما يفيد أن الدولة الفرنسية تلتزم بترتيب كافة الآثار المترتبة على شرط التحكيم الذي قبلته دون أن تتذرع بالحظر القائم في القانون الفرنسي والذي يمنع الدولة من قبول شرط التحكيم في العقود التي تبرمها([8]).

وفي تطور هام فقد اتجه القضاء الفرنسي إلى تعميم المبدأ الذي اتبعه - وهو أن الحظر الوارد على الدولة ومؤسساتها في قبول شرط التحكيم يعمل به في إطار العلاقات الوطنية البحتة دون العلاقات الدولية - على النصوص الأجنبية التي تتبنى هذه الحظر، وعلى النحو الذي يمكن معه القول بأن قاعدة عدم سريان الحظر الوارد على الدولة أو أجهزتها العامة في قبول التحكيم قد أضحت قاعدة من قواعد النظام العام الدولي.

فقد ذهبت محكمة استئناف باريس في حكمها الصادر في 13 يونيو 1996 بشأن المنازعة بين كل من الشركة الإيطالية Icori Estero والشركة الكويتية للتجارة والمعاملات الخارجية والاستثمار، وبعد أن تمسكت الشركة الكويتية أن المبدأ المستخلص من النظام العام الدولي، والذي يقضي بصحة شروط التحكيم الواردة في العقود التجارية المبرمة من قبل الدولة من أجل حاجة المعاملات الدولية لا يعمل به في العقد المبرم بين الشركة الكويتية، والذي أبرمته بصفتها ممثلة لدولة الكويت وبين الشركة الإيطالية نظراً لأن القانون الجزائري الذي اختاره الأطراف ليحكم عقدهم يحظر في المادة 442 منه على الأشخاص الاعتبارية العامة قبول التحكيم، وهو ما يؤدي إلى بطلان شرط التحكيم موضوع المنازعة إلى أنه: " أياً ما كان أساس الحظر المفروض على الدولة لإبرام اتفاق التحكيم، فإن هذا الحظر يبقى قاصراً على العقود التي تتم وفقاً للنظام الداخلي، وليس تلك التي تتعلق بالنظام العام الدولي، فوفقاً لهذا الأخير يمتنع على الدولة أن تستفيد من أحكام قانونها الوطني أو من قانون العقد للتخلص فيما بعد من اتفاق التحكيم، فما دام هذا الاتفاق قد ورد في إطار عقد دولي وتم إبرامه وفقاً للحاجات والشروط التي تتفق مع عادات التجارة الدولية والنظام العام الدولي فهو اتفاق صحيح وله الفاعلية الكاملة "([9]).

نخلص مما تقدم أنه إذا قبلت الدولة مقدماً اللجوء إلى التحكيم فإنها لا تستطيع أن تتمسك فيما بعد بقانونها الوطني لتقضي ببطلانه، حيث أن مبدأ استقلالية شرط التحكيم في العلاقات الدولية يجعل اتفاق التحكيم في هذا المجال غير خاضع إلا للنظام العام الدولي وحده. ومن مبادىء هذا النظام العام الدولي أنه لا يجوز للمشروع العام التمسك بأحكام قانونه الوطني للتخلص من اتفاق التحكيم الذي أبرمه.

ولكن التساؤل الذي يثور هنا هو ماذا سيكون عليه الحال فيما لو تمسك الطرف الخاص الأجنبي المتعاقد مع الدولة بعدم أهليتها في اللجوء إلى التحكيم وفقاً لقانون هذه الدولة؟

لقد تعرضت محكمة استئناف باريس لمثل هذه الحالة في حكمها الصادر في 17 ديسمبر 1991 في القضية المرفوعة من شركة Catoil ضد الشركة الوطنية الإيرانية للبترول ببطلان حكم التحكيم الصادر لصالح الشركة الإيرانية([10]).

 وتتلخص وقائعها في أن شركة Catoil (وهي شركة تتمتع بجنسية دولة بنما) قد دفعت بعدم اختصاص هيئة التحكيم استناداً إلى بطلان شرط التحكيم بسبب عدم أهلية الشركة الوطنية الإيرانية للبترول لقبول شرط التحكيم دون الترخيص المسبق من قبل البرلمان الإيراني، وذلك وفقاً للمادة 139 من دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية. إلا أن هيئة التحكيم رفضت هذا الدفع وأصدرت حكماً جزئياً بنظر النزاع، ثم أصدرت بعد ذلك حكماً نهائياً بإلزام شركة Catoil برد المبالغ التي احتجزتها إلى الشركة الإيرانية. فطعنت شركة Catoil على الحكمين المتقدمين أمام محكمة استئناف باريس التي أعلنت أنه: " بالنسبة للعقود الدولية المبرمة لحاجة المعاملات الدولية وطبقاً لشروطها ومقتضياتها يعد الاتفاق على التحكيم متمشياً مع النظام العام الدولي الذي يحظر على المشروع العام أن يتمسك بالنصوص المقيدة في قانونه الوطني من أجل التنصل اللاحق من التحكيم المتفق عليه مسبقاً بين الأطراف، كذلك فإن الطرف التعاقد مع هذا المشروع العام لا يمكنه أن يستند في المنازعة القائمة بشأن أهلية وسلطة هذا المشروع العام إلى نصوص القانون الوطني لهذا المشروع ".

 وعلى هذا النحو فقد أكدت المحكمة على عدم سريان الحظر الوارد في الأنظمة القانونية الداخلية في إطار العقود الدولية وذلك بغض النظر عما إذا كان من يتمسك بالحظر هو الدولة أو أحد أجهزتها أو الطرف المتعاقد معها.

ب- كذلك فقد تلجأ الدولة الطرف في عقود الاستثمار، في سعيها للتهرب من شرط التحكيم في العقود التي تبرمها، إلى التمسك بأن أحكام قانونها الوطني الذي تم تعديله بعد الاتفاق على التحكيم أصبح لا يجيز مثل هذا الاتفاق.

         ففي قضية Elf Aquitaine([11]) ضد الشركة الوطنية الإيرانية للبترول، والتي تتلخص وقائعها في أنه بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران أصدر المجلس الثوري فيها قانوناً في 8 يناير1980 تم بمقتضاه إنشاء لجنة خاصة تملك سلطة إبطال كافة عقود بترول التي تعتبرها هذه اللجنة غير متمشية مع القانون الإيراني الصادر عام 1951، والذي بمقتضاه تم تأميم صناعة البترول في إيران. وإعمالاً لهذا القانون قامت اللجنة المذكورة بإبطال العقد المبرم بين شركة Aquitaine  Elfوالشركة الوطنية الإيرانية للبترول في عام 1966، وهو ما دفع الشركة الفرنسية إلى الالتجاء إلى التحكيم إعمالاً لشرط التحكيم الوارد في العقد المبرم بينها وبين الشركة الوطنية الإيرانية للبترول الذي تم إبطاله، ولقد تمسكت الشركة الإيرانية بعدم اختصاص المحكم إعمالاً للقانون الإيراني الذي صدر بعد توقيع العقد.

         وقد انتهى المحكم المنفرد Gonard Bernhard إلى الاعتراف بالاختصاص لنفسه: " إذ أنه من المبادىء المعترف بها في قانون التحكيم الدولي أن شروط التحكيم تستمر لتكون نافذة المفعول، حتى على الرغم من المعارضة من جانب أحد الأطراف في أن العقد المتضمن شرط التحكيم هو غير شرعي وباطل ".

         وفي قضية Framatome والتي تتعلق باتفاق هيئة الطاقة الذرية الإيرانية مع بعض الشركات الفرنسية على إنشاء مفاعل نووي، فقد لجأت هذه الشركات إلى التحكيم للمطالبة بمستحقاتها المقررة بموجب الاتفاق، فدفعت الهيئة الإيرانية ببطلان اتفاقهما بالاستناد إلى عدة أسباب، من بينها أن الدستور الإيراني بعد تعديله أصبح يتطلب موافقة مجلس الوزراء عند التجاء الهيئات العامة لطريق التحكيم، وهو ما لم يتم لعدم تطلب الدستور ذلك عند إبرام اتفاق التحكيم.

         وقد انتهت هيئة التحكيم في هذه القضية إلى عدم تأثر اتفاق التحكيم بما يطرأ على قوانين الدولة أو دستورها من تعديل، إذ أكدت أن ذلك يعتبر مخالفاً لمبدأ الفاعلية، فلا يجوز للدولة أو إحدى هيئاتها العامة التخلص من التزاماتها عن طريق تعديل قوانينها الوطنية([12]).

         خلاصة ما تقدم فإن الدولة الطرف في عقود الاستثمار، لا تستطيع بعد موافقتها اللجوء إلى التحكيم، أن تتمسك ببطلان التحكيم للتهرب من اللجوء إليه، بحجة أن قانونها الوطني لا يعترف بالتحكيم في هذا النوع من العقود. ذلك لأن مبدأ استقلالية شرط التحكيم في العلاقات الدولية يجعل اتفاق التحكيم في هذا المجال غير خاضع إلا للنظام العام الدولي وحده، ومن مبادىء هذا النظام العام الدولي أنه لا يجوز للمشروع العام التمسك بأحكام قانونه الوطني للتخلص من اتفاق التحكيم الذي أبرمه. فضلاً عن أن أبسط مقتضيات حسن النية في التعاقد، تستلزم أن تقوم الدولة المتعاقدة بتبصير المتعاقد معها بالقيود التي يفرضها القانون الداخلي، ولا تلجأ أصلاً إلى الموافقة على شرط التحكيم إلا بعد استيفاء الشروط التي يفرضها القانون الداخلي. فإذا لم يُحط علماً بعدم الحصول على هذه الموافقة عند التعاقد، فإن النظام العام الدولي يتعارض مع تمكين المشروع التابع للدولة من التمسك بهذا العيب، ولهذا لا مفر من حرمانه من التمسك بالبطلان. هذا كله بفرض أن تلك القيود كانت قائمة وقت تحرير اتفاق التحكيم. أما إذا صدرت بعد الاتفاق، فإنه لا بد من إعمال المبدأ السابق من باب أولى، فالقيود التي تصدر تكون مشوبة بالغش بقصد التهرب من شرط التحكيم لسبب أو لآخر ارتأته الدولة، وقامت بإصدار التعديل لخدمة مصلحتها في الدعاوى القائمة.

         وبناءً عليه فإن مجرد وجود اتفاق التحكيم يكفي لقابلية النزاع للتحكيم، حتى ولو كان القانون الوطني الذي تم الاتفاق على التحكيم في ظله لا يجيز لجوء الدولة إلى التحكيم في هذا النوع من العقود، أو أن أحكام القانون الذي تم تعديله لا يجيز ذلك، حيث لا يجوز للدولة الاحتجاج بقانونها للتخلص من موافقتها.

         والواقع أنه قد اتجهت العديد من الدول إلى تعديل تشريعاتها الوطنية من أجل الاعتراف صراحة للدولة أو الأشخاص الاعتبارية العامة بالأهلية لإبرام اتفاقات التحكيم.

         ففي فرنسا قام المشرع بإصدار قانون 19 أغسطس 1986 (والمشهور بقانون يورو ديزني لاند)([13])، والذي بموجبه أصبح يجوز للدولة والمقاطعات والمؤسسات العامة أن تقبل شرط التحكيم في العقود الدولية المبرمة مع شركات أجنبية، وذلك استثناءً من أحكام المادة 2060 من التقنين المدني الفرنسي والتي تقرر حظر اللجوء إلى التحكيم بالنسبة للدولة ولأشخاص القانون العام. فقد نصت المادة التاسعة من القانون المشار إليه على أنه: " بالمخالفة لأحكام المادة 2060 من التقنين المدني الفرنسي يرخص للدولة والجماعات الإقليمية والمؤسسات العامة بأن تدرج في عقودها التي أبرمتها بالاشتراك مع شركات أجنبية لأجل القيام بعمليات اقتصادية وطنية شرط التحكيم لتسوية المنازعات التي تثور عند تفسير وتنفيذ تلك العقود. واشترط القانون لتطبيق هذه المادة الشروط التالية: 1- أن يكون العقد مبرماً مع شركة أجنبية، أي أن يكون العقد دولياً، ومن ثم لا ينطبق هذا الاستثناء على العقود التي تبرم بين شركات وطنية. 2- أن يكون العقد بخصوص مشروع ذا نفع قومي حتى يبرر اللجوء إلى التحكيم. 3- أن يصدر مرسوم من مجلس الوزراء بالموافقة على اللجوء إلى التحكيم بصدد كل حالة على حدة([14]).

         كما قام المشرع المصري أيضاً بإدخال تعديل على قانون التحكيم رقم 27 لعام 1994 بموجب القانون رقم 9 لسنة 1997([15]) وذلك بإضافة فقرة ثانية إلى المادة الأولى جاء نصها على النحو التالي: " وبالنسبة إلى منازعات العقود الإدارية يكون الاتفاق على التحكيم بموافقة الوزير المختص أو من يتولى اختصاصه بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة، ولا يجوز التفويض في ذلك "([16]). وبذلك يكون المشرع المصري قد أقر صراحة بقدرة الدولة وغيرها من الأشخاص الاعتبارية العامة لحل المنازعات التي تثيرها العقود التي تبرمها بطريق التحكيم([17]).

         كذلك فقد تدخل المشرع اللبناني، بعد حكمين صادرين عن مجلس شورى الدولة اللبناني في موضوع شركتي الهاتف الخليوي: ( سليس) و (ليبناسيل) بتاريخ 17/7/2001 وفيهما أبطل مجلس الشورى الشرط التحكيمي الوارد في عقدي الهاتف الخليوي مستنداً إلى أنه لا يمكن نزع اختصاص مجلس الشورى الذي هو القضاء المختص في العقود الإدارية([18])، ليدخل تعديلاً على قانون التحكيم اللبناني في 1/8/2002 اعترف بمقتضاه للدولة وغيرها من الأشخاص العامة بالأهلية لإبرام اتفاق التحكيم([19]). فقد أضاف بموجب هذا التعديل إلى المادة 762 التي تجيز للمتعاقدين إدراج بند تحكيمي في العقود المدنية والتجارية فقرتين أجاز بمقتضاهما التحكيم في العقود الإدارية الداخلية والدولية، واعترف بحق الدولة في اللجوء إلى التحكيم الدولي، إذ نصت الفقرتان على أنه: " يجوز للدولة ولأشخاص القانون العام أياً كانت طبيعة العقد موضوع النزاع اللجوء إلى التحكيم اعتباراً من تاريخ العمل بهذا القانون التعديلي، ولا يكون البند التحكيمي أو اتفاق التحكيم نافذاً في العقود الإدارية إلا بعد إجازته بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح الوزير المختص بالنسبة للدولة أو سلطة الوصاية بالنسبة للأشخاص المعنويين من القانون العام ". وهكذا فقد حسم المشرع اللبناني الجدل الذي قام طويلاً بين الفقه والقضاء الإداري وتبنى إمكانية التحكيم في العقود التي تبرم مع الدولة أو مع إحدى مؤسساتها العامة لتشجيع الاستثمار.

أما في سوريا، وفي غياب تشريع خاص بالتحكيم، فقد نصت المادة 44/2 من القانون رقم 55 الصادر في 21 فبراير 1959 والمتضمن الأحكام المتعلقة بتنظيم مجلس الدولة على أنه: " ولا يجوز لأية وزارة أو مصلحة من مصالح الدولة أن تبرم أو تقبل أو تجيز أي عقد أو صلح أو تحكيم أو تنفيذ قرار محكمين في مادة تزيد قيمتها على خمسة وأربعين ألف ليرة سورية بغير استفتاء الإدارة المختصة "([20]). ونعتقد مع البعض([21]) أن هذا النص قد أجاز التحكيم في العقود التي تكون الدولة أو إحدى المؤسسات التابعة لها طرفاً فيها، وأن المشرع إنما أراد بهذا النص مجرد طلب الرأي فيما تجريه الجهة العامة من العقود والمشارطات المذكورة دون أن تكون ملزمة باتباعه، حيث لم يقرن هذا الإجراء بجزاء ما ولم يرتب البطلان على مخالفته، وبالتالي لم يجعل منه ركناً أو شرطاً لانعقادها أو صحتها.

 وأياً ما كان وجه الصواب أو الخطأ في الرأي المتقدم، فإننا نهيب بالمشرع السوري التعجيل في إصدار قانون خاص بالتحكيم، وأن يتم النص فيه صراحة على جواز لجوء الدولة وغيرها من الأشخاص العامة إلى التحكيم وعلى نحو يجعل سوريا في طليعة الدول المشجعة للتحكيم الذي يمثل ضمانة إجرائية للاستثمارات الأجنبية التي لا يمكن ان تقوم لها قائمة بدونه.   

ثانياً- التشكيك في قابلية موضوع النزاع للتحكيم:

         قد تدفع الدولة، في سعيها لإثارة العقبات أمام التحكيم، بعدم قابلية موضوع النزاع الناشىء عن عقود الاستثمار للفصل فيه بواسطة المحكمين، لكون الغالبية العظمى من المنازعات الناشئة عن هذه العقود تتعلق بأعمال صادرة عن الدولة بصفتها سلطة عامة سيادية.

         والواقع أنه إذا كانت الأعمال أو القرارات الصادرة عن الحكومة بصفتها سلطة عليا وذات سيادة لا تقبل الخضوع للتحكيم، فإن الآثار المالية المترتبة على هذه القرارات في حد ذاتها تقبل الفصل فيها بواسطة التحكيم، طالما أنه لا توجد قاعدة آمرة في النظام العام الدولي تحظر على الدولة اللجوء إلى التحكيم في عقود الاستثمار([22]).

         فمما لاشك فيه أنه يجوز التحكيم بشأن طلب التعويض عن اتخاذ الدولة لإجراء من إجراءات نزع الملكية للمشروع الاستثماري أو تأميمه، إذا تم ذلك وفقاً للقانون أو الدستور، فإذا كانت اعتبارات السيادة تحول دون التعرض للإجراء لمحو أثره فإنها لا تحول دون الاتفاق على التحكيم بشأن التعويض العادل الذي يستحق في هذه الحالة([23]).

         ففي قضية Framatome وهيئة الطاقة الذرية الإيرانية، تمسكت الحكومة الإيرانية بعدم خضوع المسائل المتنازع عليها للتحكيم، حيث دفعت بعدم اختصاص محكمة التحكيم بنظر النزاع المعروض عليها، نظراً لأن الفصل في ذلك النزاع سوف يؤدي بالمحكمة إلى المساس بالسيادة الوطنية الإيرانية. وهو الدفع الذي لم تلتفت المحكمة إليه، مقررةً أنه إذا كان قرار الحكومة الإيرانية يعتبر قراراً لا يقبل الخضوع للتحكيم بوصفه من قرارات السلطة العليا السياسية، ويعبر عن ممارستها لسيادتها الوطنية، وهو ما يغل يد المحكمة عن التعرض إليه بأي وجه من الوجوه، وذلك على عكس الآثار المالية المترتبة على هذا القرار، إذ أن هذه الآثار في حد ذاتها قابلة للفصل فيها بواسطة التحكيم([24]).

         وهكذا فإنه لا يجوز للدولة بعد موافقتها على اللجوء إلى التحكيم أن تتنصل منه بحجة عدم قابلية موضوع النزاع للفصل فيه بواسطة التحكيم، حيث أنه من الجائز التحكيم بشأن التعويض عن عمل من أعمال الإدارة حتى ولو كان مترتباً على عمل لا يجوز التحكيم فيه، كقرار إداري غير مشروع. وقد أكدت المادة الأولى من قانون التحكيم المصري رقم 27 لسنة 1994 على سريان القانون على اتفاق التحكيم الذي يتم بين أشخاص القانون العام وأشخاص القانون الخاص أياً كانت طبيعة العلاقة القانونية التي تولد عنها النزاع([25]).

         خلاصة ما تقدم فإنه يجب عدم الاعتداد بالدفع بعدم القابلية للتحكيم بعد أن قبلت الدولة شرط التحكيم في منازعة هي طرف فيها، سواء أكان ذلك بحجة عدم أهليتها لإبرام اتفاق التحكيم أم لعدم قابلية موضوع النزاع للفصل فيه من قبل المحكمين، لما يكون من شأنه زيادة الثقة في التحكيم كأسلوب لتسوية منازعات الاستثمار، فقد استخدمت فكرة النظام العام الدولي للسماح بقابلية منازعات الدولة للتحكيم، حيث أصبح ينظر إلى عدم القابلية للتحكيم على أنها مظهر من مظاهر عدم الثقة بالتحكيم الدولي، وأنه مما يتعارض مع النظام العام الدولي ما يمكن أن يعتبر مظهراً من مظاهر عدم الثقة في التحكيم.


الفرع الثاني
المشاكل الناجمة عن تمسك الدولة بحصانتها
         إن السلاح الأفضل للدولة إذا ما حاولت التخلص من قبولها عملية التحكيم، يتمثل في القيام بعدد من الأفعال والإجراءات لعرقلة عملية التحكيم، مستغلةً في ذلك ما تتمتع به من حصانة كدولة ذات سيادة، سواء الحصانة أمام القضاء أم الحصانة ضد تنفيذ الأحكام. حيث يعتبر مبدأ الحصانة ملازماً لطبيعة الدولة، وينطوي على أن الدولة قد تستعين بسيادتها كدرع واق ضد سلطة هيئة التحكيم([26]).

         ولقد طغت مسألة الحصانة وزاد الجدل حولها في السنوات الأخيرة، لذلك يكون من الضروري توضيح أثر اتفاق التحكيم الذي تبرمه الدولة على حصانتها القضائية والتنفيذية أمام قضاء الدولة.





أولاً- الحصانة ضد القضاء Immunity from Jurisdiction:

         إن الدولة الطرف في عقود الاستثمار، في سعيها للتخلص من قبولها عملية التحكيم مع المستثمر الأجنبي، قد تدفع بما تتمتع به من حصانة كدولة ذات سيادة من الخضوع لقضاء دولة أجنبية للقول بعدم جواز خضوعها للتحكيم. فمن المبادىء المستقرة في القانون الدولي العام، أنه تأسيساً على فكرة السيادة والمساواة بين الدول فإن كل دولة تتمتع بالحصانة القضائية في مواجهة قضاء الدول الأجنبية. بمعنى أنه لا يجوز إخضاع المنازعات التي تكون الدولة أو أحد الأشخاص المعنوية العامة المنبثقة عنها طرفاً فيها لغير قضاء هذه الدول، الأمر الذي يعني عدم اختصاص قضاء دولة أجنبية بنظر تلك المنازعات، سواء أكان ذلك القضاء رسمياً في دولة أجنبية أم كان قضاءً تحكيمياً ينظر تلك المنازعات.

         ولكن نظراً لأن التحكيم له طابع خاص يتمثل في أنه يجد أساسه في إرادة الأطراف، حيث تلجأ الدولة إلى إدراج شرط التحكيم بالعقد بإرادتها الحرة، فإن التساؤل يثور حول مدى جدوى التمسك من جانب الدولة بالحصانة القضائية أمام هيئات التحكيم، على الرغم من أنها قد ارتضت في اتفاق التحكيم مبدأ فض المنازعات الناشئة أو التي يمكن أن تنشأ بينها وبين أحد أشخاص القانون الخاص بطريق التحكيم؟

يذهب الاتجاه الغالب في الفقه([27]) إلى أن الدولة تعتبر متنازلة ضمنياً عن حصانتها القضائية إذا قبلت شرط التحكيم. حيث أن اتفاق الدولة على التحكيم يعني تنازلها عن سيادتها بالنسبة للموضوع الذي جرى الاتفاق بشأنه على التحكيم. خاصة وأن المحكم لا يصدر حكمه باسم الدولة، وإنما هو ينفذ مهمة عهد بها الأطراف إليه. أي أن قضاء التحكيم هو قضاء خاص لا ينتمي إلى سلطة أية دولة، ومن ثم فهو لا يمثل اعتداءً على سيادة الدولة الطرف في النزاع. أضف إلى ذلك أن الدولة تدخل في تلك العلاقة القانونية بإرادتها المطلقة، وبموجب قانون يسمح لها بذلك، وبرضاء مسبق منها، وبدون هذا الرضاء لا يمكن إرغام الدولة على اللجوء إلى المثول أمام هيئات التحكيم. فضلاً عن أن تمسك الدولة بحصانتها القضائية أمام هيئات التحكيم بعد موافقتها عليه يتنافى مع مبدأ حسن النية في تنفيذ الدولة لالتزامها، ذلك أن قبول الدولة لاتفاق التحكيم يفرض عليها الالتزام بتسوية المنازعات التي تنشأ عن عقودها أمام هذا القضاء وحده، خاصة وأن التحكيم يكون موضع اعتبار في قبول الطرف الأجنبي للتعاقد مع الدولة، ولو كانت الدولة قد رفضت منذ البداية الخضوع للتحكيم فربما أحجم الطرف الأجنبي عن التعاقد معها، خاصة مع مخاوفه من الخضوع لقضاء الدولة الذي يشك في حيدته ونزاهته.

         ففي قضية Liamco ضد الحكومة الليبية، ذهب المحكم Mahmassani في الحكم الذي أصدره في 12 ابريل 1977 إلى رفض أي تذرع بأن هذا التحكيم ضد سيادة الدولة، وخلص إلى أن: " الدولة يمكنها دائماً أن تتنازل عن حقوقها السيادية بتوقيعها على اتفاق التحكيم ولتظل ملتزمة به "([28]).

         كذلك فقد ذهبت هيئة التحكيم في قضية هضبة الأهرام، في حكمها الصادر في 20 مايو عام 1992 إلى أن تمسك الحكومة المصرية بالحصانة القضائية أمام المركز بعد قبول شرط التحكيم لا قيمة له، لأن قبول هذا الشرط يعني التنازل عن الحصانة القضائية أمام التحكيم الذي قبلت الخضوع له([29]).

         وهكذا فقد أضحى من المقبول به اليوم على نطاق واسع، أنه حينما تدخل الدولة في اتفاق تحكيم مع شخص خاص أجنبي فإنه من المفترض أن ذلك الاتفاق يتضمن تنازلاً ضمنياً عن حصانتها ضد القضاء، وبالتالي يمتنع عليها أن تتخلص من قبولها عملية التحكيم باستغلال سيادتها. فاتفاق التحكيم يتعارض وبشكل مباشر مع الحصانة ضد القضاء، حيث يمكن اعتباره - وكما يرى البعض([30])- مهمشاً أو مضعفاً لحصانة الدولة أو الجهة الحكومية.

         ولكن التساؤل الذي يثور هنا هو حول ما إذا كان قبول الدولة للتحكيم ينطوي بالإضافة إلى تنازلها عن حصانتها القضائية أمام هيئة التحكيم كذلك على التنازل عن هذه الحصانة أمام قضاء الدولة التي يتم فيها التحكيم والخاضع لسيادة دولة أخرى، أم يقتصر مثل هذا القبول فقط على التنازل عن الحصانة أمام هيئة التحكيم ؟


         يذهب البعض من الفقه([31]) في الإجابة على هذا التساؤل إلى القول بامتداد تنازل الدولة عن حصانتها القضائية في كل حالة يستلزم فيها قانون التحكيم تدخل قضاء الدولة الأجنبية، نظراً لأن اختصاص القضاء الأجنبي هو اختصاص تابع لوظيفة التحكيم، فالدولة حينما وافقت على التحكيم تعلم أو المفروض حتماً أن تعلم باحتمال عرض النزاع أمام هذا القضاء عند الطعن على حكم التحكيم أو رفع دعوى ببطلانه.

في حين يذهب البعض الآخر([32]) إلى أنه إذا كان اتفاق التحكيم يسلب من الدولة حقها في التمسك بالحصانة أمام قضاء التحكيم باعتباره قضاءً خاصاً لا يخشى منه المساس بسيادة الدولة واستقلالها، فإن عرض النزاع المتفق بصدده على التحكيم أمام القضاء الأجنبي من مقتضاه أن تسترد حصانتها القضائية. حيث لا يمكن القول بأنها تنازلت عن هذه الميزة ما لم تكن هناك أمور أخرى قاطعة الدلالة على رغبة الدولة في التنازل عن هذه الحصانة، ومن ثم فإنه لا يعتد بشرط التحكيم ذاته للقول بأن الدولة قد تنازلت عن حصانتها أمام القضاء الخاضع لسيادة دولة أخرى.

         ومن جانبنا نعتقد بأن اتفاق التحكيم بذاته لا يفيد تنازل الدولة الطرف فيه عن حصانتها القضائية أمام قضاء غيرها من الدول، نظراً لأن تنازل الدولة عن حصانتها القضائية لا يفترض، بل لا بد أن يكون واضحاً ومؤكداً، والتنازل المقول به إنما تحقق بصدد إجراء خاص بذاته هو التحكيم، ومن ثم فلا أثر له خارج نطاق التحكيم في مجال آخر هو القضاء.

         فالدولة بقبولها التحكيم تكون قد قبلت بإرادتها المثول أمام هيئة التحكيم فلا يكون لها أن تتمسك بحصانتها أمامها، ولكنها لا تكون قد تنازلت عن هذه الحصانة أمام جهة أخرى غير جهة التحكيم وهي جهة القضاء.

ثانياً- الحصانة ضد التنفيذ Immunity from Execution:

         قد تتمسك الدولة المتعاقدة في سعيها لعرقلة عملية التحكيم، وبعد صدور الحكم التحكيمي في مواجهتها، بحصانتها في مواجهة إجراءات تنفيذه، مما يثير التساؤل عن أثر اتفاق التحكيم الذي أبرمته الدولة بإرادتها على هذه الحصانة، فهل لها أن تتمسك بحصانتها في مواجهة إجراءات تنفيذه أم أن مجرد موافقتها على التحكيم تعتبر تنازلاً ضمنياً عن حصانتها، بحيث يتعين عليها تنفيذ حكم التحكيم عند اضطرار الطرف الآخر إلى اتخاذ إجراءات التنفيذ الجبري دون أن يكون لها التمسك بحصانتها ؟

         يذهب البعض من الفقه([33]) إلى أن اتفاق التحكيم الذي قبلته الدولة يجب أن يمتد في آثاره ليشمل تنفيذ حكم التحكيم. بمعنى أن وجود هذا الاتفاق في ذاته يعتبر تنازلاً منها عن حصانتها ضد التنفيذ، وذلك تحقيقاً لاستقرار المعاملات وتحقيقاً لفاعلية اتفاق التحكيم، إذ أن قبول الدولة اللجوء إلى التحكيم بالرغم من حصانتها سيكون فارغاً من أي معنى إذا هي استطاعت أن تدفع بحصانتها لتعيق تنفيذ حكم التحكيم.

         ويذهب البعض الآخر([34]) بأن اتفاق التحكيم بذاته لا يفيد في الدلالة على تنازل الدولة عن حقها في التمسك بالحصانة في مواجهة إجراءات التنفيذ، على اعتبار أن هذه الأخيرة تتمتع باستقلالية وذاتية تحول دون اختلاطها واندماجها في الحصانة القضائية، فتنازل الدولة عن حصانتها ضد إجراءات التنفيذ لا يُفترض ولا يمكن استخلاصه من قبولها للتحكيم، وإنما يلزم أن يكون تنازل الدولة عن حصانتها ضد التنفيذ واضحاً ومؤكداً.

         ومن جانبنا نعتقد بأن موافقة الدولة على التحكيم تعتبر بمثابة تنازل ضمني عن حصانتها ضد تنفيذ حكم التحكيم، حيث يمثل ذلك خطوة كبيرة لضمان تنفيذ أحكام التحكيم ضد الدول، مما يكون له أثر كبير على تطور التحكيم الدولي الذي تكون أحد أطرافه دولة. إذ أن النتيجة سوف تكون مخيبة لو انتهت عملية التحكيم بحكم غير ملزم، حيث يعلق أحد الأساتذة على ذلك بقوله: " رغم كل ما بذل من جهد وما تحقق من نجاح ستجد نفسك في حيرة أمام حكم لا يساوي شيئاً سوى الورقة التي كتب عليها "([35]). فضلاً عن أن امتناع الدولة عن احترام حكم التحكيم يجردها من المصداقية اللازمة في المعاملات الدولية، وهو خطر لا يمكن لأية دولة أن تتجاهله([36]).

لذلك فإننا نؤيد اعتبار اتفاق التحكيم الذي تورده الدول في عقودها مع المستثمرين الأجانب يفيد تنازلها عن حصانتها ضد تنفيذ حكم التحكيم. وإذا كانت تنوي غير ذلك، فإنه يتعين عليها التأكيد منذ البداية على تمسكها بهذه الحصانة من خلال نصوص واضحة ومباشرة تؤكد تمسكها بهذه الحصانة ضد تنفيذ حكم التحكيم.

         ففي قضية حديثة ترتبط بمسألة الحصانة ضد التنفيذ، ذهبت محكمة النقض الفرنسية إلى أن دخول الدولة في اتفاق التحكيم يعتبر تنازلاً ضمنياً عن حصانتها ضد التنفيذ دونما حاجة لصياغة نص واضح ينص على تلك المسألة.

         وتتلخص وقائع هذه القضية المعروفة بقضية Creighton([37]) في أن عقداً قد أبرم بين الحكومة القطرية وشركة Creighton الأمريكية تقوم بمقتضاه الشركة الأمريكية ببناء مشفى لحساب الطرف القطري. وقد نشأ نزاع بين الطرفين حول أداء الشركة، الأمر الذي دفع الحكومة القطرية إلى طردها من موقع العمل، وقد رفضت شركة Creighton ذلك، وبدأت باتخاذ بعض الإجراءات من أجل طرح النزاع على التحكيم وفقاً لاتفاق التحكيم المبرم بين الطرفين، والذي يقضي بأن يتم التحكيم وفقاً لقواعد غرفة التجارة الدولية.

         وقد تم التحكيم في باريس، وانتهى بحكم لصالح شركة Creighton تحصل بمقتضاه على تعويض قدره ثمانية ملايين دولار.

         ولقد وصلت إجراءات تنفيذ الحكم إلى محكمة النقض الفرنسية، التي أعلنت أنه: " استناداً إلى توقيع دولة قطر على اتفاق التحكيم الذي نص على الاحتكام إلى قواعد غرفة التجارة الدولية، فإنها بذلك تكون قد تنازلت ضمنياً عن حصانتها ضد التنفيذ. فهذا هو ما تنص عليه المادة 24 من قواعد غرفة التجارة الدولية([38]) والتي تجري على أنه: أ- تكون أحكام التحكيم نهائية. ب- قبول الأطراف التحكيم وفقاً لقواعد غرفة التجارة الدولية يلزمهم بتنفيذ أي حكم تحكيم دون أي تأخير، ويعدون بذلك أنهم قد تنازلوا عن كل طرق الطعن الممكن التنازل عنها قانوناً "([39]).وهكذا فقد اعتبرت محكمة النقض الفرنسية موافقة الدولة على التحكيم بمثابة تنازل ضمني عن حصانتها ضد تنفيذ حكم التحكيم، الأمر الذي يمثل خطوة كبيرة لضمان تنفيذ أحكام التحكيم ضد الدول، مما يكون له أثر كبير على تطور التحكيم الدولي الذي تكون أحد أطرافه دولة.






(1) أنظر:
Delaume ( G.R. ) : State Contracts and Transnational Arbitration. A.J.I.L. vol  75, No 4, 1981, p. 785.
(1) أنظر:
Fox ( H ) : States and the Undertaking to Arbitrate, I.C.L.Q., vol 37, part 1, 1988, P.4.
(2) أنظر:
Boivin  (R) : International Arbitration with States: An Overview of the Risks, J.I.A., vol 19, No 4, 2002, p. 286.
(3) أنظر: د. حسام الدين الأهواني: المسائل القابلة للتحكيم، بحث مقدم إلى الدورة العامة لإعداد المحكم التي نظمها مركز تحكيم حقوق عين شمس من 15 إلى 20/3/2003، ص37.
(1) أنظر: د. حفيظة السيد الحداد: الموجز في النظرية العامة في التحكيم التجاري الدولي، مرجع سابق، ص363.
(2) أنظر: د.هاني صلاح سري الدين: التحكيم في العقود الإدارية بين الحظر والإجازة مع إشارة خاصة لأحكام القانون المصري وأحكام التحكيم التجاري الدولي، التحكيم العربي في آفاق الألفية الثالثة، سلسلة إصدارات المركز اليمني للتوفيق والتحكيم، ط1، 203، ص114.
(3) أنظر:
Cass. 14/4/1964. J.D.I, 1965, p. 646 note Goldman.
(4) أنظر:
Cass.  2/5/1966, Rev.cri, 1967, p. 553, note Goldman.
(1) أنظر:
Cour d'appel de Paris, 13/6/1996, Rev.arb, 1997, p. 251, note E. Gaillard.
(1) أنظر:
Cour d'appel de Paris, 17/12/1991, Rev.arb, 1993, p. 281, note Herve Synvet.
(1) أنظر هذه القضية منشورة في:
Y. B. Com. Arb., vol 11, 1986, p. 97.
(1) أنظر:
Bruno Oppetit: Arbitrage et contrats d'Etat, L'arbitrage Framatome et autrse C/Atomic Energy Organization of Iran, J.D.I., 1984, p.37.
نقلاً عن أستاذنا الدكتور : إبراهيم أحمد إبراهيم: التحكيم الدولي الخاص، مرجع سابق، ص102- 103.
(1) وقد كان الدافع وراء إصدار هذا القانون هو تصميم الشركة الأمريكية Walt Disney على ضرورة تضمين العقد المبرم بينها وبين مقاطعة Val de Marne والمؤسسة العامة للمدينة الجديدة Marne la Vallee على شرط التحكيم وخاصة بعد أن رفض مجلس الدول الفرنسي إدراج شرط التحكيم في هذا العقد على اعتبار أنه يتعلق بالنظام القانوني الداخلي الفرنسي ويعد بهذه المثابة مخالفا للنظام العام في فرنسا، علاوة على أن شروط تطبيق المادة 2060 من القانون المدني الفرنسي غير متحققة في واقعة الحال حيث أنها لا تسمح إلا بعقد مشارطة التحكيم لتصفية نفقات عقود الأشغال العامة والتوريد وذلك بعد نشأة النزاع. أنظر: د. حفيظة السيد الحداد: الموجز في النظرية العامة في التحكيم التجاري الدولي، مرجع سابق، ص376- 377.
(1) أنظر: د. نجلاء حسن سيد أحمد خليل: التحكيم في المنازعات الإدارية، ، دار النهضة العربية، القاهرة، 2002، ص189.
(2) وقد صدر القانون رقم 9 لسنة 1997 أصلاً ليحسم الخلاف حول قابلية المنازعات العقود الإدارية للتحكيم، وهو الخلاف الذي اشتدت خطورته بصدور فتوى عن الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بتاريخ 18/12/1996 وذلك بعدم صحة شرط التحكيم في العقود الإدارية. وقد صدرت هذه الفتوى بخصوص اتفاق التحكيم في متحف آثار النوبة. أنظر فتوى الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع جلسة 18/12/1996 ملف 54/1/339/160 في 22/2/1997 ، المختار من فتاوى  الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع في خمسين عاماً، إصدار المكتب الفني بمجلس الدولة بمناسبة العيد الذهبي للمجلس 1947-1997، ص789. 
(3) أنظر القانون رقم ( 9 ) لسنة 1997 منشور في: مجلة التحكيم العربي، العدد الأول، مايو 1999، ص137.
(4) لمزيد من التفصيل حول أهلية الدولة في اللجوء إلى التحكيم في النظام القانوني المصري أنظر: أستاذنا الدكتور إبراهيم أحمد إبراهيم: التحكيم الدولي الخاص، مرجع سابق، ص123 وما بعدها.
(1) أنظر: د. عبد الحميد الأحدب: المشرع اللبناني يعدل قانون التحكيم بعد أن أبطل مجلس الشورى الشرط التحكيمي في عقدي الخليوي – ضمانات للمستثمرين وإصلاحات نحو قانون عصري للتحكيم -، مجلة التحكيم العربي، العدد السادس، أغسطس 2003، ص31.
(2) أنظر القانون رقم 440 المتضمن بعض التعديلات على أحكام قانون أصول المحاكمات المدنية المتعلقة بالتحكيم منشور في الجريدة الرسمية اللبنانية، العدد 43، تاريخ 1/8/2002.
(3) أنظر نص القانون رقم 55 لسنة 1959 بشأن تنظيم مجلس الدولة وتعديلاته في مجلة المحامون، سورية، العددان 7- 8، لعام 1997، السنة 62، ص619.
(4) أنظر: د. أنطوان قسيس: الأخطاء في تفسير قواعد التحكيم...، مرجع سابق، ص61.
(1) أنظر: د. حفيظة السيد الحداد: العقود المبرمة بين الدول والأشخاص الأجنبية، مرجع سابق، ص289.
(1) أنظر: د. حسام الدين الأهواني: المسائل القابلة للتحكيم، مرجع سابق، ص57.
(2) أنظر:
Bruno Oppetit: Arbitrage et contrats d'Etat, L'arbitrage Framatome et autrse C/Atomic Energy Organization of Iran, J.D.I., 1984, p.37.
نقلاً عن د. حفيظة السيد الحداد: العقود المبرمة بين ...، مرجع سابق، ص287.
(3) حيث تنص المادة الأولى من قانون التحكيم المصري على أنه: " مع عدم الإخلال بأحكام الاتفاقيات الدولية المعمول بها في مصر تسري أحكام هذا القانون على كل تحكيم بين أطراف من أشخاص القانون العام أو القانون الخاص أياً كانت طبيعة العلاقة القانونية التي يدور حولها النزاع إذا كان هذا التحكيم يجري في مصر أو كان تحكيماً تجارياً دولياً يجري في الخارج واتفق أطرافه على إخضاعه لأحكام هذا القانون ". أنظر نص قانون التحكيم المصري رقم 27 لسنة 1994 في الجريدة الرسمية في 21 ابريل 1994.
(1) أنظر:
Boivin  (R) : International Arbitration with States: An Overview of the Risks, Op.Cit, p. 295.
(1) أنظر:
- Boivin ( R  ) : International Arbitration with States: An Overview of the Risks, Op.Cit, p. 295.
- Toope (  S. J. ) : Mixed International Arbitration (Studies in Arbitration between State and Private Persons, CAMBRIDGE, Grotius Publications Limited, 1990, p. 138.
وكذلك: أستاذنا الدكتور إبراهيم أحمد إبراهيم: التحكيم الدولي الخاص، مرجع سابق، ص121. د. محمد محمد بدران: المشكلات التي يثيرها تحكيم الدولة، مرجع سابق، ص8 وما بعدها.د. عصام الدين القصبي: خصوصية التحكيم في مجال منازعات الاستثمار، مرجع سابق، ص 101 .د. رقية رياض اسماعيل: خضوع الدولة للتحكيم ونظرية السيادة التقليدية، مرجع سابق، ص282. د. حفيظة السيد الحداد: العقود المبرمة بين الدول والأشخاص الأجنبية، مرجع سابق، ص278. د. مصطفى محمد الجمال ود. عكاشة محمد عبد العال: التحكيم في العلاقات الخاصة الدولية والداخلية، مرجع سابق، ص149.
(1) أنظر تحكيم Liamco منشور في:
 I. L. M., vol 20, 1981, pp. 1-87.                                     
(2) أنظر الحكم الصادر عن المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار في قضية هضبة الأهرام منشور في:
I.L.M., vol 32, 1993, p. 933.
وراجع قي دراسة تفصيلية لهذه القضية مؤلف أستاذنا الدكتور إبراهيم أحمد إبراهيم: التحكيم الدولي الخاص، مرجع سابق، ص105 وما بعدها.  
(1) أنظر:
Toope ( S.  J.) : Mixed International Arbitration ( Studies in Arbitration between State and Private Persons), Op.Cit, p. 138.
(2) أنظر: د. أحمد مخلوف: اتفاق التحكيم كأسلوب لتسوية منازعات عقود التجارة الدولية " دراسة تحليلية تأصيلية" ، دار النهضة العربية، القاهرة، 2001، ص312.
(3) أنظر: د. حفيظة السيد الحداد: العقود المبرمة بين الدول والأشخاص الأجنبية، مرجع سابق، ص278.د. مصطفى محمد الجمال ود. عكاشة محمد عبد العال: التحكيم في العلاقات الخاصة الدولية والداخلية، مرجع سابق، ص150. د. أحمد حسان حافظ مطاوع: التحكيم في العقود الدولية للإنشاءات، مرجع سابق، ص310-311.
(1) أنظر: د. أحمد مخلوف: اتفاق التحكيم كأسلوب لتسوية منازعات عقود التجارة الدولية، مرجع سابق، ص321. د. محمد عبد العزيز على بكر: فكرة العقد الإداري عبر الحدود، مرجع سابق، ص478. د. رقية رياض اسماعيل: خضوع الدولة للتحكيم ونظرية السيادة التقليدية، مرجع سابق، ص282.
(1) أنظر: د. حفيظة السيد الحداد: العقود المبرمة بين الدول والأشخاص الأجنبية، مرجع سابق، ص283-284.
(2) أنظر:
Boivin  (R) : International Arbitration with States: An Overview of the Risks, Op.Cit, p. 287.
(3) أنظر: د. علي حسين ملحم: دور المعاهدات الدولية في ... ، مرجع سابق، ص353.
(1) أنظر بشأن هذه القضية:
Boivin  (R) : International Arbitration with States: An Overview of the Risks, Op.Cit, p. 296.
(2) وقد أضحت هذه المادة مقابلة للمادة 28/6 من نظام التحكيم لدى غرفة التجارة الدولية  والذي أصبح نافذاً اعتباراً من أول يناير عام 1998. أنظر هذه القواعد منشورة بالإنجليزية على شبكة الإنترنت بالإنجليزية:
(1) أنظر:
Boivin  (R) : International Arbitration with States: An Overview of the Risks, Op.Cit, p. 296- 297.

شاركها في جوجل+

عن تغيير bounab farouk

0 التعليقات:

إرسال تعليق