الوسائل
غير القضائية (الوسائل البديلة)
لحسم منازعات عقود الاستثمار
تمهيد وتقسيم:
نظراً للطبيعة الخاصة والأهمية البالغة
لعقود الاستثمار، فقد تزايد الاهتمام بوسائل حسم منازعاتها، والعمل على حل
الخلافات التي تطرأ أثناء العمل أولاً بأول، حتى لا تتحول هذه الخلافات إلى
منازعات تحتاج الالتجاء إلى القضاء أو التحكيم من أجل حسمها.
لذلك فقد زاد التركيز في السنوات الأخيرة
على الوسائل البديلة لحسم المنازعات، وهي ببساطة وسائل سلمية لحسم المنازعات
بطريقة ودية، حيث أن التسوية التي يتم التوصل إليها عن طريق هذه الوسائل لا تكون
ملزمة للأطراف إلا إذا قبلوها.
وأعرض فيما يلي لماهية هذه الوسائل
البديلة، ودورها في حسم منازعات عقود الاستثمار، وذلك في فرعين على النحو التالي:
الفرع الأول: ماهية الوسائل البديلة لحسم
المنازعات.
الفرع الثاني: دور الوسائل البديلة في
حسم منازعات عقود الاستثمار.
الفرع الأول
ماهية الوسائل البديلة لحسم المنازعات
الوسائل البديلة لحسم المنازعات هي وسائل
لحسم المنازعات بطريقة ودية، حيث لا تكون التسوية التي يتم التوصل إليها عن طريق
هذه الوسائل ملزمة ألا إذا قبلها الأطراف([1]).
بمعنى أن إجراءات الوسائل البديلة لحسم المنازعات تعتمد على رضاء الأطراف، وتكون
القرارات الصادرة عنها غير ملزمة إلا إذا اتفق الأطراف على غير ذلك.
فقد يمتثل الأطراف لهذه التسوية أو
يرفضونها وفقاً لمدى حسن نيتهم، وقد يلزم الأطراف أنفسهم تعاقدياً مقدماً بهذه
التسوية. وإذا لم يرغب أحد الأطراف في الالتزام بالتسوية على الرغم من سابق
موافقته على الالتزام بها، فسوف يتطلب الأمر لجوء الطرف الآخر إلى القضاء أو إلى
هيئة تحكيم لعرض قضيته([2]).
وتتنوع الوسائل البديلة لحسم المنازعات، فمنها
الوساطة والتوفيق والخبرة الفنية والمحاكمات المصغرة ومجلس مراجعة المطالبات. وهي
تتسم بالعديد من المزايا المشتركة من أهمها([3]):
أ-
سيطرة الأطراف على الإجراءات: حيث يتمتع الأطراف بالسيطرة الكاملة
على الإجراءات، ذلك أنهم لا يكونون تحت أي التزام بإتباع إجراءات معينة، وإذا لم
يرضوا بما يعرض عليهم من مشروعات للتسوية فإنهم ينسحبون من الإجراءات.
ب-
السرعة:
حيث تتميز إجراءات الوسائل البديلة بالسرعة لتحقيق التسوية نظراً لانسحاب الأطراف
من الإجراءات، وإذا تحققت التسوية فإنها تتم في وقت أقل من الوقت الذي تستغرقه
إجراءات المحاكم والتحكيم.
ج-
المرونة:
حيث تحقق إجراءات الوسائل البديلة المرونة للأطراف في البحث عن تسوية دون الالتزام
بقواعد القانون وإجراءاته، وتسمح باستمرار علاقات العمل بين الأطراف وبحسم
منازعاتهم في جو ودي.
د-
السرية:
حيث تتميز الوسائل البديلة بأنها تبقي أسرار عمل الأطراف بينهم ولا تتيح أية فرصة
للغير للإطلاع عليها.
هـ-
الاقتصاد في النفقات: حيث تقل النفقات التي تستلزمها هذه
الوسائل كثيراً عن نفقات التحكيم وأتعاب المحكمين.
أما عيوب الوسائل البديلة فهي
كونها لا تنتهي بقرار ملزم للأطراف، مما يعني في حالة فشلها العودة إلى نقطة
البداية مع خسارة الوقت الذي استنفذته والمال الذي تم إنفاقه عليها.
وأعرض فيما يلي للوساطة والتوفيق بوصفهما
من الوسائل البديلة الأكثر استخداماً في تسوية منازعات عقود الاستثمار، دون التعرض
لبقية الوسائل([4])
لندرة اللجوء إليها من الناحية العملية.
أولاً-
الوساطة:
تعرف الوساطة بأنها وسيلة اختيارية غير
ملزمة لحسم الخلافات، يلجأ بموجبها الأطراف إلى طرف ثالث محايد يقوم بدور الوسيط
في محاولة لحسم الخلاف، عن طريق فحص طلبات وادعاءات الأطراف، ويساعدهم في التفاوض
لحسم النزاع([5]).
والوسيط في ممارسته لمهمته قد يجمع
الأطراف، وقد يعمل أحياناً متردداً بينهم منفرداً بكل طرف على حدة لمحاولة التوصل
إلى صيغة مرضية للنزاع([6]).
هو يسعى إلى إقناع الأطراف حتى يتم التوصل إلى تسوية ودية للنزاع([7])، فلا يستطيع أن يجبرهم على قبول التسوية([8]).
ويعتبر اتفاق الطرفين على الالتجاء إلى
الوساطة نقطة البداية في إجراءات الوساطة. وقد يأخذ هذا الاتفاق شكل شرط في العقد
أو شكل مشارطة يتفق فيها الطرفان على الالتجاء إلى الوساطة لتسوية نزاعهم.
على أنه من الممكن أن تبدأ الوساطة بلا
أي اتفاق سابق، فقد يلجأ طرف من الأطراف المتنازعة إلى طلب الوساطة من أحد المراكز
أو المؤسسات المتخصصة كمركز القاهرة، فيعرض المركز أو المؤسسة هذا الطلب على الطرف
الآخر الذي قد يقبل الوساطة([9]).
وإذا كانت القاعدة العامة هي أن الوساطة
اختيارية، إلا أن بعض الدول قد جعلت منها أسلوباً إجبارياً يجب الالتجاء إليه قبل
الالتجاء إلى التقاضي مثل الأرجنتين([10]).
ويجب أن يتوافر في الوسيط صفتي الحياد
والاستقلال، فضلاً عن أن تكون له المقدرة على الحوار والإقناع، وأن تكون له خبرة
كافية في موضوع النزاع، ويعمل على جمع المعلومات اللازمة عنه، والتفاوض مع الأطراف
بشأنه، بهدف تقريب وجهات نظرهم ومساعدتهم على تفهم مواقف بعضهم البعض فيما يتعلق
بموضوع النزاع، ودفع الحواجز النفسية والاعتبارات البيروقراطية التي كثيراً ما
تكون السبب المباشر في نشوء النزاع.
ويمكن للوسيط بناءً على ما يحصله من
معلومات من أطراف المنازعة أن يحقق مايلي([11]):
أ-
أن يخفف من حدة الخصومة بين الطرفين، بأن ينقل إلى كل من أطراف المنازعة وجهة نظر
الطرف الآخر حتى يصل معهما بالتفاوض إلى أرضية مشتركة بينهما.
ب-
أن يفتح مع كل الأطراف أو بعضهم مناقشات في موضوعات تتصل بالنزاع لم تكن قد أثيرت
في التفاوض بينهم من قبل.
ج-
أن ينقل إلى كل طرف على حدة اقتراحات ومواقف الطرف الآخر في صورة بسيطة واضحة
ومبررة، ويساعده على فهم اتجاهات كل طرف دون أن يخل بثقة الأطراف فيه.
د-
أن يكشف بعض الوقائع أو الحقائق التي تكون محققة لبعض المزايا للأطراف ولم تكن قد أثيرت
من قبل.
هـ-
أن يحاول تقليل هوة الخلاف بين الأطراف المتنازعة.
و-
أن يحاول إبراز الجوانب الهامة من عناصر التسوية وتوضيح قلة أهمية بعض الجوانب
الأخرى التي قد يشتد الخلاف بشأنها.
ز-
أن يحاول إيجاد حلول تحقق أهداف الأطراف المتنازعة مع عرض ما يمكن عرضه من بدائل.
ح-
أن يضع مشروع تسوية متكاملة للخلافات القائمة مع محاولة مواجهة احتياجات الأطراف
في المستقبل.
ومن البديهي القول إن مشروع التسوية لا
يلزم الأطراف إلا قبلوه. فإذا قبل الأطراف التسوية فإن الوسيط يقوم بإخطار المؤسسة
التي تتولى إدارة الوساطة بذلك مع إخطارها بصورة مما اتفق الأطراف عليه ووقعوا
عليه. وإذا تحقق الوسيط بأنه لا طائل من محاولاته فيمكنه أن ينهي الإجراءات ويخطر
المؤسسة أو المركز بذلك([12]).
كما يمكن لأي من الأطراف في أي وقت عدم الاستمرار في إجراءات الوساطة إذا تحقق من
عدم جدواها.
ثانياً-
التوفيق:
يعتبر التوفيق أحد أساليب تسوية المنازعات
بطريقة ودية بعيداً عن المحاكم، ومقتضاه مثول الأطراف أمام طرف محايد من اختيارهم
بغرض تسوية منازعاتهم. حيث يسعى الموفق دائماً أثناء إجراءات التوفيق باتفاق مسبق
مع الأطراف إلى أن يعرض عليهم أفضل الأوجه للتوفيق بينهم، ومن ثم يبدأ بالتوفيق
بين وجهات النظر المختلفة وبين المواقف المتعارضة، وهو عموماً يمارس في التفاوض
بين الأطراف دوراً أكبر من ذلك الذي يمارسه الوسيط حيث يقدم التوصيات التي يمكن
أخذها بعين الاعتبار في تسوية النزاع([13])،
ويدير عملية التوفيق وفقاً لما يراه مناسباً مسترشداً في ذلك بمبادىء الحيدة
والعدل والإنصاف([14]).
. فإذا نجحت إجراءات التوفيق يتم إثبات اتفاق التسوية في محضر التوفيق موقعاً عليه
من الأطراف ومن الموفق([15]).
ويمكن التمييز بصدد إجراءات التوفيق بين
نمطين أساسيين هما: التوفيق الخاص والتوفيق المؤسسي.
والتوفيق الخاص هو ببساطة عملية
يتم تنظيمها وإدارتها وفقاً لما يحدده الأطراف أنفسهم دون مساعدة من أية مؤسسة
أخرى.
وتعتبر قواعد التوفيق التي اعتمدتها
لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي (يونسترال) عام 1980 استكمالاً لقواعد
تحكيم اليونسترال النموذجية لعام 1976 مثالاً جيداً لقواعد التوفيق الخاص([16]).
أما التوفيق المؤسسي فيتميز
بتنظيمه عن طريق إحدى المؤسسات أو المراكز المتخصصة، والتي غالباً ما تكون مؤسسات أو
مراكز تحكيمية.
ويمكن أن نشير كمثال على التوفيق
المؤسسي إلى قواعد التوفيق لدى المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار([17])،
وأيضاً قواعد التوفيق الخاصة بمركز الوساطة والمصالحة التابع لمركز القاهرة
الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي([18]).
ويعتبر اتفاق الطرفين على التوفيق أمراً
لازماً لبدء إجراءاته. ويجوز أن يكون هذا الاتفاق في شكل شرط مدرج في العقد، أو في
شكل اتفاق توفيق لاحق تتم الموافقة عليه ضمنياً، كأن يلجأ طرف من الأطراف
المتنازعة إلى طلب التوفيق من إحدى المؤسسات المتخصصة فتعرض هذا الطلب على الطرف
الآخر الذي قد يقبل التوفيق أو في صيغة مكتوبة، وعلى سبيل المثال: " تُحال
جميع المنازعات الناشئة عن هذا العقد إلى التوفيق طبقاً لقواعد... ، ويكون مكان
التوفيق...".
وتجدر الإشارة إلى أن التوفيق يمكن أن
يتم بتوجيه من محكمة أو هيئة حكومية مختصة، حيث تؤكد تشريعات بعض الدول على ضرورة
الالتجاء إلى التوفيق قبل الالتجاء إلى التقاضي، كما تجيز بعض القواعد التشريعية أن
تفرض محكمة أو هيئة تحكيم أو هيئة إدارية على الأطراف الالتجاء إلى التوفيق في
منازعات محددة([19]).
ومن الأمثلة على ما تتضمنه بعض التشريعات
من ضرورة إحالة موضوع النزاع إلى التوفيق قبل الالتجاء إلى التقاضي ما تضمنه قانون
المناطق الاقتصادية ذات الطبيعة الخاصة في مصر رقم 83 لسنة 2002([20])،
فقد اعتبر القانون عرض النزاع على هيئات التوفيق المختصة شرطاً لقبول الدعوى به
أمام المحاكم، وذلك في المادة 27 منه، والتي تقضي بأنه لا يجوز طرح منازعات
الضرائب والجمارك على المحاكم إلا بعد أن تصدر هيئات التوفيق المختصة قرارها في الاعتراض،
أو انقضاء ستين يوماً من تاريخ التقرير بالاعتراض أمامها، فإذا توصلت هيئة التوفيق
إلى تسوية النزاع وقبلها الأطراف كان قرارها ملزماً واجب التنفيذ([21]).
والواقع أنه قد اشتقت بعض القواعد التي
تنظم إدارة إجراءات التوفيق من القواعد المنظمة لإجراءات التحكيم حيث تشترط تبادل
المذكرات وعقد الجلسات بالإضافة إلى بعض القواعد الإجرائية الأخرى.
وليس هناك ثمة ضرورة لتطبيق مبدأ
المواجهة بين الخصوم، حيث يمكن للموفق أن يستمع للطرفين مجتمعين أو منفردين([22]).
ولتحقيق الفعالية من الأفضل توفير مساحة
من المرونة عند الأخذ بالأدلة التي قد تشمل استخدام الوسائل غير الرسمية.
وفيما يتعلق بمبدأ السرية فقد تم إقراره
واعتماده بشكل خاص في قواعد توفيق المؤسسات التحكيمية التي تمنع الأطراف من
استخدام أية مقترحات أو أدلة قدمت أثناء إجراءات التوفيق في أية إجراءات أخرى (مثل
استخدامها أمام المحاكم أو هيئات التحكيم)([23]).
وكقاعدة عامة لا يتم تعيين الموفق كمحكم
في نفس القضية إذا فشلت عملية التوفيق([24]).
ولا تكون المقترحات أو التوصيات التي
يقدمها الموفق بعد دراسة الموضوع ملزمة، حيث يكون للأطراف مطلق الحرية في قبولها
أو رفضها، ويمكن للأطراف تحويل تلك المقترحات إلى عقد موقع أو حكم تحكيم ملزم
يوافق عليه الأطراف.
وفي حالة فشل إجراءات التوفيق قد يحيل
الأطراف القضية إلى محاكم الدولة أو إلى هيئات التحكيم طالما تم الاتفاق عليه([25]).
وفي مثال عملي لقضية تم تسويتها عن طريق
التوفيق يمكننا أن نشير إلى (قضية يوروسيب) ([26])،
وتتلخص وقائع هذه القضية بأنه طبقاً للعقد المبرم بين يوروسيب (مجموعة من الشركات
الأوربية) ووزارة الأشغال العامة والموارد المائية المصرية بتاريخ 2 مارس 1989،
فقد التزمت يوروسيب بأن تقوم بتصميم وتنفيذ وبناء وتوريد وإنشاء واختبار وصيانة
مشروع قناطر أسنا الجديدة طبقاً لنصوص العقد والسعر المحدد فيه.
وقد نشأ خلال تنفيذ العقد عدد من
المنازعات بين الأطراف، فلجأت مجموعة الشركات الأوربية إلى مركز القاهرة الإقليمي
للتحكيم التجاري الدولي وفقاً لنص المادة 67 من شروط العقد، وتقدمت بمطالبات بلغت
مائتين واثنين وخمسين مليون جنيه مصري مع طلب مد الوقت لإتمام الأعمال، وقامت
الوزارة من جانبها بتقديم مطالباتها المضادة والتي بلغت 487,330، 17 مليون جنيه
بالإضافة إلى غرامة التأخير.
وأثناء نظر دعوى التحكيم لجأ الطرفان إلى
التوفيق أمام مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي.
وقد قام مدير المركز بإجراء التوفيق
بينهما، وبعد عدة جولات من الجلسات بين الموفق وطرفي النزاع لمراجعة الحسابات
وتصفية الخلافات بينهما عقد الموفق مع ممثلي الطرفين الجلسة الأخيرة يوم 1/3/1997
وانتهى فيها إلى رأي تم إخطاره إلى طرفي النزاع.
وقد انتهت جهود الصلح بتوصل الطرفين إلى
اتفاق لتسوية المنازعات في اجتماع عقد بتاريخ 3 مايو 1998، يتم بمقتضاه استحقاق
مجموعة الشركات الأوربية مبلغاً قدره ثمانية وسبعين مليون جنيه مصري شاملاً كافة
المستحقات والمطالبات المضادة لكل من الطرفين. وبتاريخ 14 مارس 1999 تم توقيع
اتفاقية التسوية.
وبعد أن عرضنا لماهية الوسائل البديلة
لحسم منازعات عقود الاستثمار، فإن التساؤل يثور عن أهمية هذه الوسائل والدور الذي
يمكن أن تلعبه في حسم منازعات عقود الاستثمار ؟
الفرع الثاني
دور
الوسائل البديلة في حسم
منازعات عقود الاستثمار
نظراً للطبيعة الخاصة والأهمية البالغة
لعقود الاستثمار بالنسبة لطرفي العقد، المستثمر والدولة المضيفة للاستثمار،
وارتباطها بحياة الملايين من البشر لتعلقها بخطط التنمية في الدولة المضيفة، فقد
تزايد الاهتمام بوسائل توقي منازعاتها والعمل على حل الخلافات التي تطرأ أثناء
العمل أولاً بأول حتى لا تتحول هذه الخلافات إلى منازعات تحتاج إلى الالتجاء إلى
القضاء أو إلى التحكم لحسمها، لذلك فقد زاد الاهتمام بالوسائل البديلة لحسم
المنازعات كطريق لحل منازعات عقود الاستثمار، لما تحققه من مزايا تتناسب مع طبيعة
هذه العقود.
حيث تتميز عقود الاستثمار بآجالها
الطويلة عموماً، لذلك يكون من المهم بالنسبة للأطراف الحفاظ على علاقات جيدة في حالة
نشوء نزاع بينهم، وذلك من أجل المحافظة على علاقاتهم المستقبلية، ويكون من الضروري
في مثل هذه الأحوال حل النزاع بين الأطراف بشكل ودي، وهو ما يمكن أن توفره الوسائل
البديلة لحسم المنازعات.
فضلاً عن تميز جانب كبير من منازعات عقود
الاستثمار، ولا سيما عقود التعاون الصناعي والأشغال الدولية، بكونها ذات طبيعة
فنية معقدة، ويؤدي عدم مواجهتها في الوقت المناسب إلى تفاقمها والتأثير سلباً على
العلاقات بين الأطراف، وبالتالي تعقد النتائج المترتبة عليها، مما يؤثر على أهمية
التوصل إلى تسوية سريعة وملائمة للنزاع تراعى فيها خصائصها الفنية في نفس الوقت.
وهو ما يمكن للوسائل البديلة لحسم المنازعات أن تحققه، نتيجة لكونها تعتني في
المقام الأول بجوهر النزاع وأسبابه، وتستهدف التوصل إلى تسوية سريعة له يكون من
شأنها المحافظة على العلاقة بين الأطراف، وتشجعهم على إظهار نوع من المرونة في
مواقفهم بحيث يكون رائدهم التوصل إلى حلٍ مرضٍ لهم جميعاً، ولو اقتضى الأمر عدم
التقيد بالاعتبارات القانونية البحتة المتصلة بالنزاع.
وهكذا فإن الوسائل البديلة تلعب دوراً
هاماً في حسم منازعات عقود الاستثمار، من حيث كونها تُعنى في النزاع بأسبابه أكثر
من اعتنائها بجوانبه القانونية من ناحية، كما تستهدف التوصل إلى تسوية سريعة
للنزاع وغير ملزمة لطرفيه بغير رضاهما من ناحية أخرى.
إلا أنه مما يؤخذ على هذه الوسائل هو أن
فعاليتها تعتمد بشكل حصري على رضاء الأطراف، الذين لهم مطلق الحرية في تنفيذ أو
عدم تنفيذ التوصيات أو القرارات التي يصدرها الموفق أو الوسيط. فهذه التوصيات لا
تماثل أحكام المحاكم أو التحكيم، وبالتالي لا يمكن الاعتراف بها كحكم صادر عن تلك
المحاكم، وتبعاً لذلك لا يمكن لأحد الأطراف أن يطلب من محاكم الدولة تنفيذ توصيات
الموفق أو الوسيط أو أية توصيات أخرى تم الاتفاق عليها.
لذلك غالباً ما يتم الدمج بين الوسائل
البديلة وبين التحكيم أو القضاء، حيث تنص عقود عديدة على وسيلتين متدرجتين لحسم
المنازعات: اللجوء إلى الوسائل البديلة لحسم المنازعات كخطوة أولى ثم اللجوء إلى
إجراءات المحاكم أو التحكيم كخطوة ثانية في حالة فشل الوسائل البديلة([27]).
وعندما يصل الأطراف إلى نقطة اللاعودة (إنهاء العقد من جانب أحد الأطراف على سبيل
المثال)، وعندما لا يتوقعون أية فائدة ترجى من استمرار علاقتهم في المستقبل يصبح
من غير المعقول لجوء الأطراف إلى الوسائل البديلة، فإنه في هذه الحالة ليس هناك
بديل غير اللجوء إلى القضاء أو التحكيم في حال نص الأطراف على التحكيم في عقودهم.
Paulsson (J.) and others : The Freshfields Guide to
Arbitration and ADR: Clauses in International Contracts 2nd ed., The Hague : Kluwer, 1999,
p. 109.
Paulsson (J.) and others : The Freshfields Guide to
Arbitration and ADR: Clauses in International Contracts, Op.Cit, 109- 110.
(2) وقد نصت اتفاقية
إنشاء المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار على هذه القواعد في المواد 28 - 35.
أنظر نص الاتفاقية منشور بالإنجليزية على شبكة الانترنت:
http://www.jus.uio.no/lm/icsid.settlement.of.disputes.between.states.and.nationals.of.other.states.convention.washington.1965/doc
وكذلك نص الاتفاقية باللغة العربية منشور في
الجريدة الرسمية، العدد 30، في 27 يوليو 1972.
(3) فقد أنشأ مركز
القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي في أغسطس 2001 مركز الوساطة والمصالحة
كفرع للمركز منوط به تجنب وحسم منازعات التجارة والاستثمار عن طريق الوسائل
البديلة لحسم المنازعات (الوساطة- التوفيق- الخبرة الفنية- المحاكمات المصغرة-
مجلس مراجعة المطالبات). أنظر: كتاب قواعد حسم منازعات التجارة والاستثمار الصادر
عن مركز القاهرة، يوليو 2002، ص7.
(2) وقد تضمن
قانون
المناطق الاقتصادية ذات الطبيعة الخاصة تنظيماً لتسوية منازعات الاستثمار في إطار
مركز ينشأ فيها يتولى الإشراف على عملية التسوية، وقد حدد القانون في المادة 53
مهام مركز تسوية المنازعات في اتخاذ الإجراءات اللازمة للتوفيق في طوائف المنازعات
التي حددها. أنظر في دراسة لهذا القانون: د. أحمد شرف الدين: مستقبل التحكيم في
مصر (قوانين الاستثمار والمناطق الاقتصادية الخاصة)، مرجع سابق. وكذلك د. نادر
محمد إبراهيم: تسوية منازعات المنطقة الاقتصادية ذات الطبيعة الخاصة " دراسة
تحليلية ونقدية في إطار القانون رقم 83 لسنة 2002 في شأن المناطق الاقتصادية ذات
الطبيعة الخاصة "، مجلة التحكيم العربي، العدد السادس، أغسطس 2003، ص95 وما
بعدها.
(2) تنص المادة 35 من
اتفاقية إنشاء المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار على أنه: " ما لم يتفق
على غير ذلك فإنه لا يجوز لأي من الطرفين بمناسبة أية إجراءات أخرى تتخذ أمام هيئة
تحكيم أو قضاء أو بأية صورة أخرى أن يستند إلى الآراء التي أعرب عنها أو التصريحات
أو عروض التسوية التي قدمت من جانب الطرف الآخر خلال إجراءات التوفيق الفاشلة خلاف
ما ورد بالمحضر الرسمي أو توصيات اللجنة ".
(1) وقد وضعت العديد من
المؤسسات التحكيمية شروطاً نموذجية تجمع بين التوفيق والوساطة وبين التحكيم. وفيما
يلي على سبيل المثال توصية المنظمة العالمية للملكية الفكرية (ويبو) لبند الوساطة
المتبوعة بالتحكيم في حال عدم التوصل إلى تسوية بطريق الوساطة: " كل نزاع أو
خلاف أو مطلب ينشأ عن هذا العقد وعن أي
تعديل لاحق له أو بناءً على ذلك أو بالارتباط به، ويشمل بصورة غير حصرية
تكوينه أو صحته أو أثره الإلزامي أو تفسيره أو أدائه أو خرقه أو إنهائه، فضلاً عن
المطالب خارج إطار العقد، يحال إلى الوساطة وفقاً لنظام الويبو بشأن الوساطة.
ويكون مكان الوساطة....وتكون اللغة واجبة الاستعمال في الوساطة ... وإذا لم تنته
الوساطة إلى تسوية أي نزاع أو خلاف أو مطلب من ذلك القبيل في غضون (60) أو (90)
يوماً من الشروع في الوساطة أو في حدود ذلك فان النزاع أو الخلاف أو المطلب، يحال
بناءً على طلب للتحكيم يودعه أحد الطرفين، إلى التحكيم لتسويته تسوية نهائية بطريق
التحكيم وفقا لنظام الويبو بشان التحكيم...". أنظر: كريستوفر إمهوس وهيرمان
فيربست: التحكيم والوسائل البديلة لحسم المنازعات، مرجع سابق، ص57.
0 التعليقات:
إرسال تعليق