الوسائل القضائية لحسم منازعات عقود الاستثمار
تمهيد وتقسيم:
يقصد بالوسائل القضائية هنا ببساطة قضاء المحاكم وهيئات التحكيم، حيث يكون لكل من المحاكم وهيئات التحكيم سلطة إصدار أحكام ملزمة لأطراف النزاع، ويتم تنفيذها ضد الطرف الخاسر.
ويمثل اللجوء من جانب الأطراف في عقود الاستثمار إلى الإجراءات القضائية الوسيلة الأكثر أهمية لتسوية منازعاتهم، حيث بمقتضاها يمكن الوصول إلى أحكام ملزمة لأطراف النزاع ويتم تنفيذها ضد الطرف الخاسر.
ونظراً لأننا سنعرض للتحكيم بالتفصيل لاحقاً فإن دراستنا للوسائل القضائية كوسيلة لحسم منازعات الاستثمار ستقتصر هنا على المحاكم القضائية الوطنية والدولية. وذلك في فرعين على النحو التالي:
الفرع الأول: القضاء الوطني كوسيلة لحسم منازعات عقود الاستثمار.
الفرع الثاني: القضاء الدولي كوسيلة لحسم منازعات عقود الاستثمار.
الفرع الأول
القضاء الوطني كوسيلة لحسم
منازعات عقود الاستثمار
يعتبر القضاء الوطني هو صاحب الاختصاص الأصيل بالفصل في منازعات عقود الاستثمار، حيث يمكن اللجوء في تسوية منازعات هذه العقود إلى محاكم الدولة لنظر القضية وإصدار حكم في موضوع النزاع. فمع غياب النظم والترتيبات الأخرى المتفق عليها، فإنه من الطبيعي أن تتم تسوية منازعات الاستثمار أمام المحاكم الوطنية للدولة المضيفة للاستثمار( ).
ويمكن للأطراف اللجوء إلى محاكم الدولة التي يتبع لها المستثمر الأجنبي، أو إلى محاكم دولة ثالثة، أو إلى محاكم الدولة المضيفة للاستثمار. إلا أن الملاحظ بصفة عامة هو ندرة لجوء الأطراف في حسم منازعاتهم عن طريق محاكم دولة المستثمر أو محاكم دولة ثالثة، ذلك أن اللجوء إلى محاكم دولة المستثمر أو إلى محاكم دولة ثالثة لا يمكن أن يسهم كثيراً في تسوية المنازعات بين الدولة المضيفة والمستثمرين الأجانب( ). وذلك لعدة أسباب تتعلق بمبدأ الحصانة الرسمية للدولة ذات السيادة، والذي يقصد به منع المحاكم الوطنية في بلد ما من محاكمة دولة أجنبية أو مؤسساتها، حيث أن سيادة الدولة واستقلالها يتنافيان مع إمكانية خضوعها بأية صورة من الصور لسلطان القضاء في دولة أخرى، فمقاضاة الدولة أمام محاكم دولة أخرى ينطوي على انتهاك لسيادتها ومساس باستقلالها( ).
وإذا كانت العقود الأخيرة قد شهدت زيادة سريعة في تحول الدولة عن نظرية السيادة المطلقة إلى نظرية الحصانة السيادية المقيدة نتيجة لاتساع دور الدولة وقيامها بأعمال تخرج عن إطار نشاطها التقليدي بسبب ممارستها للعديد من الأنشطة التجارية والصناعية( )، حيث يمكن التمييز بين نوعين من الأعمال التي تمارسها الدولة: الأول هو أعمال السيادة وهذه تتمتع بالنسبة لها الدولة بحصانة قضائية مطلقة إذ لا يجوز إخضاعها للقضاء الوطني إلا برضاها، والثاني أعمال تجارية أو من أعمال الإدارة العادية التي تتنازل فيها عن صفتها كدولة ذات سيادة وتنزل إلى مرتبة الأفراد العاديين مثل عقود الاستثمار، ولا تتمتع الدولة بالنسبة لها بأية حصانة مما يمكن معه خضوعها للقضاء الوطني، وهذا ما يسمى بنظرية الحصانة القضائية المقيدة( )، فإن المستثمر الأجنبي قد يواجه احتمال عدم تنفيذ الدولة للأحكام الصادرة في مواجهتها بما يعنيه ذلك من صعوبات.
وأمام ذلك فقد قصرت دراستي بالنسبة للقضاء الوطني كوسيلة لحسم منازعات عقود الاستثمار على القضاء الوطني للدولة المضيفة بوصفه الجهة المختصة أصلاً بحسم منازعات هذه العقود (أولاً) ومدى فعالية هذه الوسيلة (ثانياً).
أولاً- اختصاص القضاء الوطني للدولة المضيفة بحسم منازعات عقود الاستثمار:
إن الطبيعة الخاصة لمنازعات عقود الاستثمار وارتباطها بالمصالح الحيوية للدولة المضيفة للاستثمار والتي تحرص في الأغلب على إخضاع مثل هذه العقود لقواعدها الوطنية يجعل القضاء الوطني للدولة المضيفة للاستثمار - ما لم يكن هناك اتفاق على خلاف ذلك - الجهة المختصة أصلاً بحسم المنازعات التي يمكن أن تثيرها عقودها مع المستثمرين الأجانب( ).
حيث تنص العديد من القرارات الدولية والتشريعات الوطنية وأيضاً عقود الاستثمار على أن المنازعات التي تنشأ بين الدولة والمستثمرين الأجانب تجري معالجتها ضمن اختصاصها القضائي، غير أنه من الممكن باتفاق الطرفين إتباع وسائل سلمية أخرى.
فتنص الفقرة الربعة من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1803 لسنة 1962 بشأن السيادة الدائمة للدولة على مواردها على أنه : " على أي حال، فعندما تثير مسألة التعويض خلافاً يجري استنفاد الاختصاص الوطني للدولة التي اتخذت مثل تلك الإجراءات. هذا وعند الاتفاق بين الدولة ذات السيادة والأطراف المعنية تتم تسوية النزاع من خلال التحكيم أو المقاضاة الدولية "( ).
كما تنص المادة 2/2 (ج) من ميثاق الحقوق والواجبات الاقتصادية للدولة على أنه: " عندما تثير مسألة التعويض خلافاً، يتم حل هذا الخلاف بمقتضى القانون الوطني للدولة المؤممة وعن طريق محاكمها، إلا إذا جرى الاتفاق المتبادل من قبل الدول المعنية كافة على إتباع وسائل سلمية أخرى على أساس المساواة في السيادة للدول ووفق مبدأ الاختيار الحر للوسائل "( ).
يتضح من هذين القرارين أن تسوية منازعات التعويض هي من المواضيع التي تنظرها المحاكم المحلية في الدولة التي تقوم بالتأميم، إلا إذا تم التوصل بالاتفاق إلى وسيلة سلمية أخرى.
كما نص قانون الاستثمار السوري رقم10 لسنة 1991 والمعدل بالمرسوم التشريعي رقم /7/ والصادر بتاريخ 13/5/2000 وذلك في المادة السادسة والعشرين منه على أن: " أ- تتمتع المشاريع والاستثمارات المرخصة وفق أحكام هذا القانون بعدم المصادرة أو نزع الملكية أو الحد من التصرف في ملكية الاستثمار وعائداته إلا إذا كان الغرض المنفعة العامة ومقابل تعويض عادل، كما لا يجوز الحجز عليها إلا بقرار قضائي، وتسوى الخلافات في جميع هذه الحالات باللجوء إلى القضاء السوري المختص.
ب- تسوى نزاعات الاستثمار بين المستثمرين من رعايا الدول العربية والأجنبية المشملة مشاريعهم بأحكام هذا القانون وبين الجهات والمؤسسات العامة السورية وفق مايلي:
- عن طريق الحل الودي، وإذا لم يتوصل الطرفان إلى الحل الودي خلال فترة ستة اشهر من تاريخ تقديم إشعار خطي للتسوية الودية من قبل احد طرفي الخلاف، يحق لأي منهما اللجوء إلى إحدى الطرق التالية:
- اللجوء إلى التحكيم.
- أو اللجوء إلى القضاء السوري.
- أو اللجوء إلى محكمة الاستثمار العربية المشكلة بموجب الاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية وفق الدول العربية لعام 1980 .
- أو أن يتم تسوية الخلاف وفق أحكام اتفاقية ضمان وحماية الاستثمار الموقعة بين الجمهورية العربية السورية وبلد المستثمر..."( ).
كذلك فقد جعل المشرع الجزائري للجهات القضائية الجزائرية الاختصاص بنظر منازعات الاستثمار، فأكد في المادة 17 من قانون الاستثمار لسنة 2001 على أن كل خلاف بين المستثمر الأجنبي والدولة الجزائرية يخضع للجهات القضائية الجزائرية، إلا في حالة وجود اتفاقيات دولية تتعلق بالمصالحة والتحكيم، أو في حالة وجود اتفاق خاص ينص على بند تسوية أو بند يسمح للطرفين بالتوصل إلى اتفاق بناءً على تحكيم خاص( ).
كذلك فقد اعتبر المشرع الكويتي في القانون رقم 8 لسنة 2001 بشأن تنظيم الاستثمار الأجنبي المباشر لرأس المال الأجنبي في الكويت أن طريق السلطة القضائية بالدولة هو الطريق العادي للفصل في النزاعات الناشئة عن استثمار أجنبي أياً كان نوعها( )، فقد نصت المادة السادسة عشرة في الفصل السادس من هذا القانون على أنه: " تكون المحاكم الكويتية وحدها هي المختصة بنظر أي نزاع ينشأ بين مشروعات الاستثمار الأجنبي والغير أيا كان "( ). وحول المقصود بالغير جاءت المذكرة التفسيرية للقانون لتحديد معنى الغير في مجال تطبيق أحكام هذه المادة أنها الجهات الحكومية والأشخاص الطبيعيين والأشخاص الطبيعية والاعتبارية العامة والخاصة( ).
كما نص قانون الاستثمار الليبي رقم 5 لسنة 1997 والذي بدأ العمل به في 29 مايو 1997 على أنه: " يعرض أي نزاع ينشأ بين المستثمر الأجنبي والدولة إما بفعل المستثمر أو نتيجة لإجراءات اتخذتها ضده الدولة على المحاكم المختصة في الجماهيرية إلا إذا كانت هناك اتفاقية ثنائية بين الجماهيرية والدولة التي ينتمي إليها المستثمر أو اتفاقيات متعددة الأطراف تكون الجماهيرية والدولة التي ينتمي إليها المستثمر طرفين فيها تتضمن نصوصاً متعلقة بالصلح أو التحكيم أو اتفاق خاص بين المستثمر والدولة ينص على شرط التحكيم "( ).
كما ورد في العقد المبرم بين مصر وشركة AMOCO في المادة 23 /1 على أنه: " يلزم إحالة أي نزاع ينشأ بين الحكومة والأطراف حول تفسير أو تطبيق أو تنفيذ الاتفاقية إلى محاكم جمهورية مصر العربية المختصة "( ).
ثانياً- تقييم دور القضاء الوطني للدولة المضيفة بحسم منازعات عقود الاستثمار:
على الرغم من أن القضاء الوطني للدولة المضيفة هو الجهة المختصة أصلاً بتسوية المنازعات الناجمة عن عقود الاستثمار ما لم يكن هناك اتفاق على خلاف ذلك، فان هذا المبدأ قد تعرض للعديد من الانتقادات التي تشكك في قدرته على حسم منازعات عقود الاستثمار، حيث أصبحت هناك قناعة شبه عامة بأن التسوية القضائية ليست أفضل الوسائل لحسم منازعات عقود الاستثمار( )، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب من أهمها:
أ- الشك في حيدة القضاء الوطني حيال دعاوى تكون دولته طرفاً فيها في مواجهة طرف أجنبي( ). وذلك لأن قضاة الدولة مهما بلغت موضوعيتهم وحيدتهم فإنه لا يمكنهم التخلص من وجهة نظر دولهم، وخاصة حينما يتعلق الأمر بالاقتصاد الوطني للدولة التي ينتمون إليها.
ب- إن الإجراءات القضائية تتسم عموماً بكونها بطيئة. ويرجع هذا في المقام الأول إلى أن محاكم الدولة مثقلة بالعمل نتيجة تراكم القضايا المعروضة على القاضي( )، بالإضافة إلى تعدد درجات التقاضي (المحكمة الابتدائية- محكمة الاستئناف- المحكمة العليا) التي تتيح للطرف الخاسر إمكانية طلب مراجعة وقائع القضية، وهو ما لا يتناسب مع طبيعة منازعات عقود الاستثمار التي تتطلب السرعة في حسم منازعاتها، ذلك أن الخلاف قد يرد على مسائل مالية أو يؤثر عليها مما يجعل من الضروري سرعة الفصل فيها لكي لا تزداد خسائر الأطراف. فإذا كنا بصدد قضية استثمار كبرى يكون هناك كم هائل من المستندات التي يضطر القاضي إلى ترجمتها، وتبقى مشكلة قبول كافة الأطراف لهذه الترجمة، كما تكون هناك استثمارات ومبالغ نقدية كبيرة ومجمدة في انتظار صدور حكم القضاء، ومن ثم تكون هناك خسارة محققة نتيجة تعطل تلك المبالغ التي تنتظر حتى يتم الفصل في المنازعات بشأنها مع بطء إجراءات التقاضي، ثم يأتي دور الطعن في الحكم وتعدد درجات التقاضي، وهو مالا يتفق مع سمة السرعة التي يتطلبها حسم منازعات الاستثمار.
ج- يضاف إلى ذلك حقيقة أن محاكم الدولة غالباً ما تفتقر إلى الخبرة الفنية اللازمة لحل منازعات الاستثمار الدولية المعقدة( )، حيث لا تكون هذه المحاكم متخصصة دائماً في المواضيع التجارية، كما قد لا يتمتع القضاة دائماً بتدريب كاف على حسم منازعات ذات طبيعة فنية ومركبة، مثل عقود استغلال الثروات الطبيعية ونقل التكنولوجيا وتسليم المفتاح وغيرها من العقود التي تتطلب المعرفة الفنية والخبرة القانونية المتخصصة في حسم منازعاتها وهو مالا يتوفر في القضاء الوطني.
وأمام ذلك لا يرتاح المستثمرون الأجانب عادة إلى عرض منازعات عقود الاستثمار على القضاء المحلي للدولة المضيفة، ويفضلون عرض تلك المنازعات على التحكيم.
وقد دفعت رغبة الدول في جذب الاستثمارات الأجنبية إلى أراضيها إلى مسايرة المستثمر الأجنبي في هذا الاتجاه، فعلى الرغم من أن اللجوء إلى القضاء المحلي في الدولة المضيفة يعد الوسيلة الأكثر اتفاقاً مع مقتضيات سيادتها، إلا أن رغبتها في تشجيع الاستثمار على إقليمها يلزمها بأن تراعي ما يعتمل في نفوس المستثمرين الأجانب فيما يتعلق بالقضاء المحلي من حيث حياده وقدرته على حسم منازعات عقود الاستثمار.
الفرع الثاني
القضاء الدولي كوسيلة لحسم
منازعات عقود الاستثمار( )
يقضي الأصل بأنه في حالة حدوث ضرر للمستثمر الأجنبي المتعاقد مع الدولة المضيفة نتيجة لتصرف تقوم به هذه الدولة فإنه يلجأ إلى المحاكم الداخلية للدولة المدعى عليها من أجل الحصول على الحماية القضائية لحقه أو مركزه القانوني.
ولكن قد يتعذر على المستثمر الأجنبي المضرور أن يحصل على الحماية المطلوبة، كما لو تخلت محاكم الدولة المدعى عليها عن نظر الدعوى استناداً إلى نظرية أعمال السيادة أو كانت النظم القضائية والقانونية للدولة المذكورة تخلو من طرق مضمونة لتحقيق الحماية القضائية ... لذلك فإن التساؤل يثور هنا حول ما إذا كان من الممكن إثارة المسئولية الدولية للدولة المضيفة ومقاضاتها دولياً تمكينا للمستثمر الأجنبي من الحصول على حقه؟ وإذا كان ذلك ممكناً فما هي الآلية القانونية المناسبة لتحريك مسئولية الدولة في هذه الحالة؟
أولاً- مدى المسئولية الدولية الناجمة عن إخلال الدولة بالتزاماتها الناشئة عن عقود الاستثمار:
يحظى نظام المسئولية الدولية بأهمية كبيرة في نطاق القانون الدولي، حيث من شأن هذا النظام إعادة الحق إلى نصابه وإنصاف الجانب المضرور( ).
ولا بد بدايةً من أجل بحث مدى توافر المسئولية الدولية في إخلال الدولة بالتزاماتها الناشئة عن عقود الاستثمار من تحديد مفهوم مسئولية الدولة.
وفي تحديد هذا المفهوم يعرف أحد الأساتذة المسئولية الدولية بأنها: " نظام قانوني يكون بمقتضاه على الدولة التي تنتهك مصلحة مشروعة طبقاً للقانون الدولي الالتزام بإصلاح ما ترتب على ذلك الفعل حيال الدولة التي ارتكبت هذا الفعل ضدها أو ضد رعاياها "( ).
ويعرفها آخر بأنها: " نظام قانوني يترتب بموجبه على الدولة التي ارتكبت عملاً يحرمه القانون الدولي التعويض عن الضرر الذي لحق بالدولة المعتدى عليها"( ).
ويشير أحد الأساتذة أن المسئولية الدولية هي رابطة قانونية جديدة تنشأ في حالة الإخلال بالتزام دولي بين الشخص الذي أخل بالالتزام والشخص الذي تضرر نتيجة هذا الإخلال ويترتب على هذه الرابطة أن يلتزم الشخص بإزالة ما يترتب عن عمله من نتائج كما يحق للشخص المتضرر المطالبة بالتعويض( ).
ويعرف قاموس مصطلحات القانون الدولي المسئولية الدولية بأنها: " الالتزام المفروض بمقتضى القانون الدولي على الدولة المنسوب إليها ارتكاب فعل أو امتناع مخالف لالتزاماتها الدولية بتقديم تعويض إلى الدولة المضرورة سواء في شخصها أو شخص أو أموال رعاياها "( ).
والملاحظ من مجمل هذه التعريفات والآراء أنه يلزم لتحقق مسئولية الدولة في إطار القانون الدولي توافر ثلاثة شروط:
أ- وجود إخلال بالتزام دولي.
ب- إسناد هذا الإخلال إلى الدولة.
ج- أن يترتب على هذا الإخلال ضرر جدي يلحق بشخص من أشخاص القانون الدولي أو برعاياه( ).
وهو ما يدفعني إلى التساؤل عما إذا كانت هذه الشروط تتحقق في إخلال الدولة بالتزاماتها الناشئة عن عقدها مع المستثمر الأجنبي؟
إذا تركنا الشرط الثاني وكذلك الشرط الثالث نظراً لكونهما لا يثيران مشاكل كثيرة في دراسة المسئولية الدولية فسنقتصر على مدى توفر الشرط الأول (وهو وجود عمل غير مشروع دولياً) في تصرف الدولة المضيفة.
وهنا أرى أن مجرد إخلال الدولة بالتزامها العقدي مع المستثمر الأجنبي لا يعتبر إخلالاً بالتزام دولي موجب لمسئوليتها طالما أنه لا يشكل في حد ذاته عملاً مكوناً لخطأ دولي( ). ذلك أن هذه العقود تخضع، كما أوضحنا فيما سبق، للقانون الوطني للدولة المتعاقدة مما يعني اختصاصه بتحديد ما إذا كانت الإجراءات التي قامت باتخاذها في مواجهة المستثمر الأجنبي المتعاقد معها مخالفة لهذا النظام القانوني أم متمشية معه، ومن ثم فإن القانون الدولي لا يمكنه أن يعتبر مسألة من المسائل مخالفة للقانون وفقاً للمعايير الخاصة بهذا القانون بينما تعد تلك المسألة من وجهة نظر القانون الواجب التطبيق عليها عملاً مشروعاً من الناحية القانونية.
وهكذا فإن مجرد مخالفة العقد من جانب الدولة لا يؤدي إلى ترتيب مسئوليتها الدولية، وإنما يتعين لتحقق هذه المسئولية وبالتالي إمكان مقاضاتها دولياً ضرورة أن يكون هذا الإخلال مقترناً بخطأ تعسفي أو جسيم. أي أن المصدر المحرك لمسئولية الدولة - كما يرى البعض بحق - ليس هو الإخلال بالعقد وإنما وجود فعل غير مشروع مستقل عن العقد( ). فإذا ارتكبت الدولة هذا الفعل الغير مشروع دولياً الذي تترتب عليه مسئوليتها الدولية فإنه يمكن حينئذ مقاضاتها دولياً، أما مجرد إخلالها بتنفيذ التزامها التعاقدي فلا يترتب عليه مسئوليتها الدولية. فإذا توافرت أركان المسئولية الدولية في تصرف الدولة المضيفة للاستثمار فإن التساؤل يثور عن الآلية القانونية لتحريك هذه المسئولية الدولية ؟.
ثانياً- الحماية الدبلوماسية وسيلة لتحريك مسئولية الدولة المضيفة عن عملها غير المشروع دولياً تجاه المستثمر الأجنبي:
أوضحنا أن المسئولية الدولية هي علاقة بين أشخاص القانون الدولي. لذلك فإن المستثمر الأجنبي، وهو فرد عادي لا يتمتع بالشخصية الدولية( )، لا يملك حق المطالبة الدولية لإصلاح ما يصيبه من ضرر نتيجة لقيام الدولة المضيفة بتصرف غير مشروع دولياً.
وقد نصت المادة 34/1 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية أن الدول وحدها هي التي من الممكن أن تكون أطراف القضايا التي تنظر فيها المحكمة( ). وهو ما يعني أن المستثمر الأجنبي، وهو فرد عادي، لا يملك بصفته هذه حق المثول مباشرة أمامها لكونه لا يتمتع بالشخصية الدولية.
لذلك فإن السبيل الوحيد أمام المستثمر الأجنبي لولوج القضاء الدولي للمطالبة بحقوقه في مواجهة الدولة المضيفة هو أن يلجأ إلى الدولة التي يحمل جنسيتها لتتبنى مطالبته. حيث يعترف الفقه( ) وكذلك العديد من أحكام القضاء الدولي( ) بأن لكل دولة حق ثابت ومصلحة مؤكدة في أن ترى حقوق ومصالح رعاياها محترمة ومكفولة من جانب الدول الأخرى، وبالتالي أهليتها في رفع دعوى المسئولية الدولية إذا حصل اعتداء على حقوق ومصالح رعاياها نتيجة مخالفة دولة أخرى لأحكام وقواعد القانون الدولي. ويطلق على هذه الوسيلة التي بموجبها تتولى دولة ما تحريك المسئولية الدولية في مواجهة دولة أخرى ألحقت الضرر برعاياها انتهاكاً لقواعد القانون الدولي مصطلح دعوى الحماية الدبلوماسية.
والتي يمكن تعريفها بأنها وسيلة قانونية من وسائل القانون الدولي بمقتضاها تقوم الدولة التي لحق الضرر برعاياها بتحريك المسئولة الدولية تجاه الدولة التي سببت هذا الضرر بعملها غير المشروع دولياً وذلك حماية لرعاياها إذا لم يتمكنوا من الحصول على حقوقهم بالطرق القضائية الداخلية( ).
وتتأسس الحماية الدبلوماسية بهذا المفهوم على أن ما يلحق الفرد من إضرار بمصالحه أو حقوقه إنما يمثل في نفس الوقت إضراراً بمصالح الدولة التي يحمل جنسيتها سواء من الناحية الاقتصادية أو السياسية أو المعنوية( ).
وهكذا فإنه يلزم لرفع دعوى الحماية الدبلوماسية توافر شرطين: أ- أن يكون المستثمر المضرور متمتعاً بجنسية الدولة التي تريد ممارسة الحماية. ب- أن يكون المستثمر المضرور قد استنفد طرق التقاضي الداخلية المنصوص عليها في قانون الدولة المدعى عليها( ).
أ- شرط الجنسية في دعوى الحماية الدبلوماسية:
من المستقر عليه في قواعد القانون الدولي أنه يشترط لممارسة الحماية الدبلوماسية من جانب دولة ما أن يتمتع المضرور بجنسيتها( ). ذلك أن رابطة الجنسية بين المضرور والدولة هي التي تخول الدولة الصفة في رفع دعوى المسئولية الدولية، وتوفر بالتالي شرط المصلحة اللازم لقبول تلك الدعوى( ).
فيشير أحد الأساتذة في هذا الخصوص إلى أنه: " من الوظائف العادية للجنسية أنها تعطي الدولة المصلحة القانونية، فعندما يلحق الرعايا ضرر أو خسارة بفعل دولة أخرى ولم تستطع هذه الدولة إثبات جنسية الطالب، فإن الطلب يكون غير مقبول بسبب غياب أية مصلحة قانونية لهذه الدولة "( ).
وقد استلزم القضاء الدولي صراحةً أن يكون المضرور منتمياً بجنسيته إلى الدولة التي تطلب حمايته دبلوماسياً، فقد أعلنت المحكمة الدائمة للعدل الدولي عام 1939 بشأن النزاع بين استونيا وليتوانيا أنه: " ما لم يوجد اتفاق أو معاهدة تنص على حكم مخالف، فإن رابطة الجنسية بين الدولة والفرد هي وحدها التي تمنح الدولة حق الحماية الدبلوماسية "( ).
وعلى هذا النحو فإن المستثمر المضرور لا يمكنه الاستفادة من الحماية الدبلوماسية إلا إذا كان منتمياً بجنسيته إلى الدولة التي يطلب حمايتها، فالدولة يجب أن تكون لها صفة تبرر تدخلها لصالح الشخص المضرور، سواء أكان شخصاً طبيعياً أم اعتبارياً. لأن الدولة الوطنية عندما تقوم بممارسة حمايتها فهي تضع نفسها في إطار القانون الدولي، والقانون الدولي هو الذي يحدد الصفة لممارسة الحماية، وهي صفة لا تكتسبها الدولة إلا عندما ينتمي إليها المضرور بجنسيته( ).
ويثور التساؤل هنا بصدد تطبيق شرط الجنسية عن مواصفات الجنسية اللازمة لممارسة الحماية الدبلوماسية، فهل يكفي أن يكون المضرور منتمياً بجنسيته إلى الدولة التي تريد حمايته دبلوماسياً ولو كان هذه الانتماء صورياً أم يلزم أن يكون انتماؤه فعلياً بحيث تعبر جنسيته عن ارتباطه الواقعي بالدولة التي تريد حمايته؟
بدايةً فإن هذا التساؤل في اعتقادنا لا محل له إذا كان المضرور لا يحمل سوى جنسية دولة واحدة، إذ يجب السماح لهذه الدولة بحمايته أمام القضاء الدولي حتى ولو لم تقم رابطة الجنسية بينه وبين هذه الدولة على أسس واقعية. لأن القول بخلاف ذلك يؤدي، كما يرى البعض( ) وبحق، إلى إهدار حق الفرد وتجريده من كل وسائل الحماية القانونية ويجعله في وضع يشبه معدوم الجنسية.
ولكن تبدو أهمية تحديد مواصفات الجنسية اللازمة لممارسة الحماية الدبلوماسية في حالة كون المستثمر المضرور متعدد الجنسيات. أي متمتعاً بجنسية أكثر من دولة في ذات الوقت. وذلك لتحديد المعيار الذي يعول عليه القضاء الدولي لقبول دعوى الحماية الدبلوماسية في حالة ادعاء كل دولة من الدول التي يحمل المستثمر المضرور جنسيتها شموله بالحماية الدبلوماسية، وكذلك فيما إذا كان ممكناً تحريك دعوى الحماية الدبلوماسية إذا كان المضرور متمتعاً في وقت واحد بجنسية كل من الدولة الشاكية والدولة المشكو منها.
لقد ساد في البداية ما يسمى بمبدأ المساواة في السيادة بين الدول، والذي ينكر على القضاء الدولي الحق في الترجيح بين الجنسيات التي يحملها الشخص المضرور( ). حيث يكون من حق كل دولة من الدول التي يحمل المستثمر جنسيتها التصدي لحمايته، وذلك استناداً إلى تكافؤ سيادات كل الدول التي يحمل الفرد جنسيتها لأن ترجيح إحداها يتضمن إهداراً لسيادة الدول الأخرى وهذا لا يجوز.
وهو ما يعني الفشل في حسم التنازع الناجم عن مشكلة تعدد الجنسيات. إذ أن من شأن إعمال المبدأ المذكور أنه لا يجوز لإحدى الدول التي يتمتع الشخص بجنسيتها أن تتصدى لحمايته في مواجهة دولة أخرى من الدول التي ينتمي إليها متعدد الجنسية. لأنه استناداً إلى مبدأ المساواة في السيادة بين الدول فإنه من غير المقبول تفضيل دولة على أخرى في تحريك دعوى المسئولية وتكون في وضع المدعى وتتراجع الثانية إلى وضع المدعى عليه المنتهك لقواعد القانون الدولي( ). وهو ما أكدته محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري بشأن التعويض عن الأضرار المتعلقة بالخدمة في الأمم المتحدة في عام 1949 حيث أعلنت: " إن الممارسة العادية للحماية الدبلوماسية هي أن الدولة لا تمارس هذه الحماية لصالح أحد رعاياها إزاء دولة أخرى تعده مواطناً لها"( ).
وقد برز اتجاه جديد في تحديد الجنسية اللازمة لممارسة الحماية الدبلوماسية يستلزم في الجنسية التي ينتمي بها المضرور إلى الدولة المدعية أن تعبر عن ارتباط فعلي (اجتماعياً واقتصادياً وروحياً) بين الدولة والمتمتع بجنسيتها، وهو ما يطلق عليه مبدأ الجنسية الفعلية Effective Nationality. فممارسة الدولة لحمايتها الدبلوماسية تستلزم أن تكون الجنسية التي ينتمي بها المضرور إلى الدولة المدعية جنسية واقعية لا جنسية صورية، لذلك قيل بأن الواقعية هي الأساس الوحيد الذي يسمح بالاحتجاج بالجنسية في مجال الحماية الدبلوماسية( ).
وهو المبدأ الذي أكده القضاء الدولي، إذ قضت محكمة العدل الدولية في قضية Nottebohm بين لشيتنشتاين وجواتيمالا سنة 1955 بأنه لا يمكن الاعتراف بالجنسية من قبل الدول الأخرى واستخدامها كسند قانوني لممارسة الحماية الدبلوماسية إلا إذا كانت فعلية، أي تمثل رابطة حقيقية بين الفرد الدولة. حيث أعلنت المحكمة بأن الجنسية هي: " الرابطة القانونية التي تجد أساسها في الواقع الاجتماعي للانتماء، وفي تضامن واقعي في المعيشة والمصالح والمشاعر، فهي تقوم على حقوق وواجبات متبادلة "( ).
ومن جانبنا فإننا، وأمام سلبية الاتجاه الأول في حسم التنازع الناشىء عن تعدد الجنسيات، نؤيد تطبيق معيار فعلية الجنسية للترجيح بين الجنسيات التي يرتبط بها الشخص. وهو ما يقود إلى عدة نتائج:
1- إذا تنازعت عدة دول يتبعها المستثمر المضرور بجنسيته بشأن التصدي لحمايته دبلوماسياً أمام القضاء الدولي في مواجهة الدولة المضيفة، فإن دعوى الحماية الدبلوماسية أمام القضاء الدولي لن تقبل إلا من الدولة التي يتمتع المستثمر طالب الحماية بجنسيتها الفعلية.
2- خلافاً لما كان سائداً قبل ظهور مبدأ الجنسية الفعلية، من أنه لا يجوز للدولة أن تمارس حمايتها الدبلوماسية لصالح أحد رعاياها إزاء دولة أخرى يكون هذا الشخص في ذات الوقت متمتعاً بجنسيتها إعمالاً لمبدأ المساواة في السيادة بين الدول، فإنه يمكن قبول دعوى الحماية الدبلوماسية إذا كانت الجنسية التي تربط الدولة الشاكية بطالب الحماية جنسية فعلية، أما إذا كان هذا الشخص ينتمي بجنسية فعلية إلى الدولة التي سببت الضرر فإن هذه الدعوى لن تقبل.
ب- شرط استنفاد الطرق القضائية الداخلية المتاحة في الدولة المضيفة:
لا يكفي لممارسة الدولة دعوى الحماية الدبلوماسية بالنيابة عن المستثمر الأجنبي المضرور أن يكون هذا المستثمر متمتعاً بجنسيتها، وإنما يتعين أيضاً أن يكون المستثمر المضرور قد سبق له أن استنفد دون نجاح جميع الوسائل المقررة لإصلاح الضرر في تشريع الدولة المضيفة. بمعنى أن المستثمر المضرور مطالب قبل التماس الحماية الدبلوماسية من دولته التي يتبعها بجنسيته أن يلجأ إلى كل وسائل الإصلاح المحلية في الدولة المضيفة وأن يفشل في إصلاح ضرره وفقاً لذلك( ). إذ أن مبدأ السيادة والاستقلال الوطني يعطي لكل دولة الحق في اشتراط خضوع الأجانب لنظامها القانوني الداخلي، وبالتالي فإنه يكون من غير المقبول على الإطلاق أي تدخل أجنبي قبل استنفاد وسائل الإصلاح المتاحة في النظام القانوني الوطني( ). كما يساعد اشتراط استنفاد وسائل الإصلاح المقررة في الدولة المضيفة قبل اللجوء إلى الحماية الدبلوماسية في الحفاظ على العلاقات الودية بين الدول ويحول دون إثارة المنازعات التي يترتب عليها تحريك المسئولية الدولية التي تؤدي في أحيان كثيرة إلى نزاع مسلح أو تهديد للسلم والأمن الدوليين. ولا شك ان تلافي الخلافات الدولية وتقليل عدد الدعاوى التي ترفعها الدول بعضها على بعض فيه مصلحة محققة للمجتمع الدولي بأسره( ).
وأشير في ختام هذا الفرع إلى أن اللجوء إلى الحماية الدبلوماسية في تسوية منازعات الاستثمار قد أسفر عن نتائج مخيبة للآمال( )، وتجلى ذلك على وجه الخصوص في نزاعين شهيرين تم اللجوء فيهما إلى الحماية الدبلوماسية لتسوية النزاع القائم هما:
الأول هو قضية البترول الأنجلو إيرانية( ) حينما لجأت المملكة المتحدة إلى تطبيق الحماية الدبلوماسية في عام 1950-1951 حتى تثبت المسئولية الدولية للحكومة الإيرانية عن تأميم الشركة الإنجليزية – الإيرانية للبترول وذلك من خلال اللجوء المباشر إلى محكمة العدل الدولية.
والثاني هو ما عرف بقضية برشلونة تراكشن( ) حينما رفعت كل من الحكومة الكندية والحكومة البلجيكية دعوى أمام محكمة العدل الدولية لحماية مصالح المستثمرين الكنديين والبلجيكيين الذين تكبدوا الكثير من الخسائر نتيجة للأعمال والإجراءات التي اتخذتها الحكومة الأسبانية في مواجهتهم.
وقد كان الفشل في تسوية النزاع في هاتين القضيتين بمثابة النهاية لتلك المرحلة في تسوية منازعات الاستثمار، والتي تميزت بالتدخل المباشر من جانب الدول القائمة بالاستثمارات لحماية مصالح رعاياها، وذلك لتحل محلها منذ منتصف القرن العشرين تقريباً مرحلة جديدة في تسوية منازعات الاستثمار تمثلت في الإجراءات المباشرة بين المستثمر ذاته وحكومة الدولة المضيفة.
تمهيد وتقسيم:
يقصد بالوسائل القضائية هنا ببساطة قضاء المحاكم وهيئات التحكيم، حيث يكون لكل من المحاكم وهيئات التحكيم سلطة إصدار أحكام ملزمة لأطراف النزاع، ويتم تنفيذها ضد الطرف الخاسر.
ويمثل اللجوء من جانب الأطراف في عقود الاستثمار إلى الإجراءات القضائية الوسيلة الأكثر أهمية لتسوية منازعاتهم، حيث بمقتضاها يمكن الوصول إلى أحكام ملزمة لأطراف النزاع ويتم تنفيذها ضد الطرف الخاسر.
ونظراً لأننا سنعرض للتحكيم بالتفصيل لاحقاً فإن دراستنا للوسائل القضائية كوسيلة لحسم منازعات الاستثمار ستقتصر هنا على المحاكم القضائية الوطنية والدولية. وذلك في فرعين على النحو التالي:
الفرع الأول: القضاء الوطني كوسيلة لحسم منازعات عقود الاستثمار.
الفرع الثاني: القضاء الدولي كوسيلة لحسم منازعات عقود الاستثمار.
الفرع الأول
القضاء الوطني كوسيلة لحسم
منازعات عقود الاستثمار
يعتبر القضاء الوطني هو صاحب الاختصاص الأصيل بالفصل في منازعات عقود الاستثمار، حيث يمكن اللجوء في تسوية منازعات هذه العقود إلى محاكم الدولة لنظر القضية وإصدار حكم في موضوع النزاع. فمع غياب النظم والترتيبات الأخرى المتفق عليها، فإنه من الطبيعي أن تتم تسوية منازعات الاستثمار أمام المحاكم الوطنية للدولة المضيفة للاستثمار( ).
ويمكن للأطراف اللجوء إلى محاكم الدولة التي يتبع لها المستثمر الأجنبي، أو إلى محاكم دولة ثالثة، أو إلى محاكم الدولة المضيفة للاستثمار. إلا أن الملاحظ بصفة عامة هو ندرة لجوء الأطراف في حسم منازعاتهم عن طريق محاكم دولة المستثمر أو محاكم دولة ثالثة، ذلك أن اللجوء إلى محاكم دولة المستثمر أو إلى محاكم دولة ثالثة لا يمكن أن يسهم كثيراً في تسوية المنازعات بين الدولة المضيفة والمستثمرين الأجانب( ). وذلك لعدة أسباب تتعلق بمبدأ الحصانة الرسمية للدولة ذات السيادة، والذي يقصد به منع المحاكم الوطنية في بلد ما من محاكمة دولة أجنبية أو مؤسساتها، حيث أن سيادة الدولة واستقلالها يتنافيان مع إمكانية خضوعها بأية صورة من الصور لسلطان القضاء في دولة أخرى، فمقاضاة الدولة أمام محاكم دولة أخرى ينطوي على انتهاك لسيادتها ومساس باستقلالها( ).
وإذا كانت العقود الأخيرة قد شهدت زيادة سريعة في تحول الدولة عن نظرية السيادة المطلقة إلى نظرية الحصانة السيادية المقيدة نتيجة لاتساع دور الدولة وقيامها بأعمال تخرج عن إطار نشاطها التقليدي بسبب ممارستها للعديد من الأنشطة التجارية والصناعية( )، حيث يمكن التمييز بين نوعين من الأعمال التي تمارسها الدولة: الأول هو أعمال السيادة وهذه تتمتع بالنسبة لها الدولة بحصانة قضائية مطلقة إذ لا يجوز إخضاعها للقضاء الوطني إلا برضاها، والثاني أعمال تجارية أو من أعمال الإدارة العادية التي تتنازل فيها عن صفتها كدولة ذات سيادة وتنزل إلى مرتبة الأفراد العاديين مثل عقود الاستثمار، ولا تتمتع الدولة بالنسبة لها بأية حصانة مما يمكن معه خضوعها للقضاء الوطني، وهذا ما يسمى بنظرية الحصانة القضائية المقيدة( )، فإن المستثمر الأجنبي قد يواجه احتمال عدم تنفيذ الدولة للأحكام الصادرة في مواجهتها بما يعنيه ذلك من صعوبات.
وأمام ذلك فقد قصرت دراستي بالنسبة للقضاء الوطني كوسيلة لحسم منازعات عقود الاستثمار على القضاء الوطني للدولة المضيفة بوصفه الجهة المختصة أصلاً بحسم منازعات هذه العقود (أولاً) ومدى فعالية هذه الوسيلة (ثانياً).
أولاً- اختصاص القضاء الوطني للدولة المضيفة بحسم منازعات عقود الاستثمار:
إن الطبيعة الخاصة لمنازعات عقود الاستثمار وارتباطها بالمصالح الحيوية للدولة المضيفة للاستثمار والتي تحرص في الأغلب على إخضاع مثل هذه العقود لقواعدها الوطنية يجعل القضاء الوطني للدولة المضيفة للاستثمار - ما لم يكن هناك اتفاق على خلاف ذلك - الجهة المختصة أصلاً بحسم المنازعات التي يمكن أن تثيرها عقودها مع المستثمرين الأجانب( ).
حيث تنص العديد من القرارات الدولية والتشريعات الوطنية وأيضاً عقود الاستثمار على أن المنازعات التي تنشأ بين الدولة والمستثمرين الأجانب تجري معالجتها ضمن اختصاصها القضائي، غير أنه من الممكن باتفاق الطرفين إتباع وسائل سلمية أخرى.
فتنص الفقرة الربعة من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1803 لسنة 1962 بشأن السيادة الدائمة للدولة على مواردها على أنه : " على أي حال، فعندما تثير مسألة التعويض خلافاً يجري استنفاد الاختصاص الوطني للدولة التي اتخذت مثل تلك الإجراءات. هذا وعند الاتفاق بين الدولة ذات السيادة والأطراف المعنية تتم تسوية النزاع من خلال التحكيم أو المقاضاة الدولية "( ).
كما تنص المادة 2/2 (ج) من ميثاق الحقوق والواجبات الاقتصادية للدولة على أنه: " عندما تثير مسألة التعويض خلافاً، يتم حل هذا الخلاف بمقتضى القانون الوطني للدولة المؤممة وعن طريق محاكمها، إلا إذا جرى الاتفاق المتبادل من قبل الدول المعنية كافة على إتباع وسائل سلمية أخرى على أساس المساواة في السيادة للدول ووفق مبدأ الاختيار الحر للوسائل "( ).
يتضح من هذين القرارين أن تسوية منازعات التعويض هي من المواضيع التي تنظرها المحاكم المحلية في الدولة التي تقوم بالتأميم، إلا إذا تم التوصل بالاتفاق إلى وسيلة سلمية أخرى.
كما نص قانون الاستثمار السوري رقم10 لسنة 1991 والمعدل بالمرسوم التشريعي رقم /7/ والصادر بتاريخ 13/5/2000 وذلك في المادة السادسة والعشرين منه على أن: " أ- تتمتع المشاريع والاستثمارات المرخصة وفق أحكام هذا القانون بعدم المصادرة أو نزع الملكية أو الحد من التصرف في ملكية الاستثمار وعائداته إلا إذا كان الغرض المنفعة العامة ومقابل تعويض عادل، كما لا يجوز الحجز عليها إلا بقرار قضائي، وتسوى الخلافات في جميع هذه الحالات باللجوء إلى القضاء السوري المختص.
ب- تسوى نزاعات الاستثمار بين المستثمرين من رعايا الدول العربية والأجنبية المشملة مشاريعهم بأحكام هذا القانون وبين الجهات والمؤسسات العامة السورية وفق مايلي:
- عن طريق الحل الودي، وإذا لم يتوصل الطرفان إلى الحل الودي خلال فترة ستة اشهر من تاريخ تقديم إشعار خطي للتسوية الودية من قبل احد طرفي الخلاف، يحق لأي منهما اللجوء إلى إحدى الطرق التالية:
- اللجوء إلى التحكيم.
- أو اللجوء إلى القضاء السوري.
- أو اللجوء إلى محكمة الاستثمار العربية المشكلة بموجب الاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية وفق الدول العربية لعام 1980 .
- أو أن يتم تسوية الخلاف وفق أحكام اتفاقية ضمان وحماية الاستثمار الموقعة بين الجمهورية العربية السورية وبلد المستثمر..."( ).
كذلك فقد جعل المشرع الجزائري للجهات القضائية الجزائرية الاختصاص بنظر منازعات الاستثمار، فأكد في المادة 17 من قانون الاستثمار لسنة 2001 على أن كل خلاف بين المستثمر الأجنبي والدولة الجزائرية يخضع للجهات القضائية الجزائرية، إلا في حالة وجود اتفاقيات دولية تتعلق بالمصالحة والتحكيم، أو في حالة وجود اتفاق خاص ينص على بند تسوية أو بند يسمح للطرفين بالتوصل إلى اتفاق بناءً على تحكيم خاص( ).
كذلك فقد اعتبر المشرع الكويتي في القانون رقم 8 لسنة 2001 بشأن تنظيم الاستثمار الأجنبي المباشر لرأس المال الأجنبي في الكويت أن طريق السلطة القضائية بالدولة هو الطريق العادي للفصل في النزاعات الناشئة عن استثمار أجنبي أياً كان نوعها( )، فقد نصت المادة السادسة عشرة في الفصل السادس من هذا القانون على أنه: " تكون المحاكم الكويتية وحدها هي المختصة بنظر أي نزاع ينشأ بين مشروعات الاستثمار الأجنبي والغير أيا كان "( ). وحول المقصود بالغير جاءت المذكرة التفسيرية للقانون لتحديد معنى الغير في مجال تطبيق أحكام هذه المادة أنها الجهات الحكومية والأشخاص الطبيعيين والأشخاص الطبيعية والاعتبارية العامة والخاصة( ).
كما نص قانون الاستثمار الليبي رقم 5 لسنة 1997 والذي بدأ العمل به في 29 مايو 1997 على أنه: " يعرض أي نزاع ينشأ بين المستثمر الأجنبي والدولة إما بفعل المستثمر أو نتيجة لإجراءات اتخذتها ضده الدولة على المحاكم المختصة في الجماهيرية إلا إذا كانت هناك اتفاقية ثنائية بين الجماهيرية والدولة التي ينتمي إليها المستثمر أو اتفاقيات متعددة الأطراف تكون الجماهيرية والدولة التي ينتمي إليها المستثمر طرفين فيها تتضمن نصوصاً متعلقة بالصلح أو التحكيم أو اتفاق خاص بين المستثمر والدولة ينص على شرط التحكيم "( ).
كما ورد في العقد المبرم بين مصر وشركة AMOCO في المادة 23 /1 على أنه: " يلزم إحالة أي نزاع ينشأ بين الحكومة والأطراف حول تفسير أو تطبيق أو تنفيذ الاتفاقية إلى محاكم جمهورية مصر العربية المختصة "( ).
ثانياً- تقييم دور القضاء الوطني للدولة المضيفة بحسم منازعات عقود الاستثمار:
على الرغم من أن القضاء الوطني للدولة المضيفة هو الجهة المختصة أصلاً بتسوية المنازعات الناجمة عن عقود الاستثمار ما لم يكن هناك اتفاق على خلاف ذلك، فان هذا المبدأ قد تعرض للعديد من الانتقادات التي تشكك في قدرته على حسم منازعات عقود الاستثمار، حيث أصبحت هناك قناعة شبه عامة بأن التسوية القضائية ليست أفضل الوسائل لحسم منازعات عقود الاستثمار( )، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب من أهمها:
أ- الشك في حيدة القضاء الوطني حيال دعاوى تكون دولته طرفاً فيها في مواجهة طرف أجنبي( ). وذلك لأن قضاة الدولة مهما بلغت موضوعيتهم وحيدتهم فإنه لا يمكنهم التخلص من وجهة نظر دولهم، وخاصة حينما يتعلق الأمر بالاقتصاد الوطني للدولة التي ينتمون إليها.
ب- إن الإجراءات القضائية تتسم عموماً بكونها بطيئة. ويرجع هذا في المقام الأول إلى أن محاكم الدولة مثقلة بالعمل نتيجة تراكم القضايا المعروضة على القاضي( )، بالإضافة إلى تعدد درجات التقاضي (المحكمة الابتدائية- محكمة الاستئناف- المحكمة العليا) التي تتيح للطرف الخاسر إمكانية طلب مراجعة وقائع القضية، وهو ما لا يتناسب مع طبيعة منازعات عقود الاستثمار التي تتطلب السرعة في حسم منازعاتها، ذلك أن الخلاف قد يرد على مسائل مالية أو يؤثر عليها مما يجعل من الضروري سرعة الفصل فيها لكي لا تزداد خسائر الأطراف. فإذا كنا بصدد قضية استثمار كبرى يكون هناك كم هائل من المستندات التي يضطر القاضي إلى ترجمتها، وتبقى مشكلة قبول كافة الأطراف لهذه الترجمة، كما تكون هناك استثمارات ومبالغ نقدية كبيرة ومجمدة في انتظار صدور حكم القضاء، ومن ثم تكون هناك خسارة محققة نتيجة تعطل تلك المبالغ التي تنتظر حتى يتم الفصل في المنازعات بشأنها مع بطء إجراءات التقاضي، ثم يأتي دور الطعن في الحكم وتعدد درجات التقاضي، وهو مالا يتفق مع سمة السرعة التي يتطلبها حسم منازعات الاستثمار.
ج- يضاف إلى ذلك حقيقة أن محاكم الدولة غالباً ما تفتقر إلى الخبرة الفنية اللازمة لحل منازعات الاستثمار الدولية المعقدة( )، حيث لا تكون هذه المحاكم متخصصة دائماً في المواضيع التجارية، كما قد لا يتمتع القضاة دائماً بتدريب كاف على حسم منازعات ذات طبيعة فنية ومركبة، مثل عقود استغلال الثروات الطبيعية ونقل التكنولوجيا وتسليم المفتاح وغيرها من العقود التي تتطلب المعرفة الفنية والخبرة القانونية المتخصصة في حسم منازعاتها وهو مالا يتوفر في القضاء الوطني.
وأمام ذلك لا يرتاح المستثمرون الأجانب عادة إلى عرض منازعات عقود الاستثمار على القضاء المحلي للدولة المضيفة، ويفضلون عرض تلك المنازعات على التحكيم.
وقد دفعت رغبة الدول في جذب الاستثمارات الأجنبية إلى أراضيها إلى مسايرة المستثمر الأجنبي في هذا الاتجاه، فعلى الرغم من أن اللجوء إلى القضاء المحلي في الدولة المضيفة يعد الوسيلة الأكثر اتفاقاً مع مقتضيات سيادتها، إلا أن رغبتها في تشجيع الاستثمار على إقليمها يلزمها بأن تراعي ما يعتمل في نفوس المستثمرين الأجانب فيما يتعلق بالقضاء المحلي من حيث حياده وقدرته على حسم منازعات عقود الاستثمار.
الفرع الثاني
القضاء الدولي كوسيلة لحسم
منازعات عقود الاستثمار( )
يقضي الأصل بأنه في حالة حدوث ضرر للمستثمر الأجنبي المتعاقد مع الدولة المضيفة نتيجة لتصرف تقوم به هذه الدولة فإنه يلجأ إلى المحاكم الداخلية للدولة المدعى عليها من أجل الحصول على الحماية القضائية لحقه أو مركزه القانوني.
ولكن قد يتعذر على المستثمر الأجنبي المضرور أن يحصل على الحماية المطلوبة، كما لو تخلت محاكم الدولة المدعى عليها عن نظر الدعوى استناداً إلى نظرية أعمال السيادة أو كانت النظم القضائية والقانونية للدولة المذكورة تخلو من طرق مضمونة لتحقيق الحماية القضائية ... لذلك فإن التساؤل يثور هنا حول ما إذا كان من الممكن إثارة المسئولية الدولية للدولة المضيفة ومقاضاتها دولياً تمكينا للمستثمر الأجنبي من الحصول على حقه؟ وإذا كان ذلك ممكناً فما هي الآلية القانونية المناسبة لتحريك مسئولية الدولة في هذه الحالة؟
أولاً- مدى المسئولية الدولية الناجمة عن إخلال الدولة بالتزاماتها الناشئة عن عقود الاستثمار:
يحظى نظام المسئولية الدولية بأهمية كبيرة في نطاق القانون الدولي، حيث من شأن هذا النظام إعادة الحق إلى نصابه وإنصاف الجانب المضرور( ).
ولا بد بدايةً من أجل بحث مدى توافر المسئولية الدولية في إخلال الدولة بالتزاماتها الناشئة عن عقود الاستثمار من تحديد مفهوم مسئولية الدولة.
وفي تحديد هذا المفهوم يعرف أحد الأساتذة المسئولية الدولية بأنها: " نظام قانوني يكون بمقتضاه على الدولة التي تنتهك مصلحة مشروعة طبقاً للقانون الدولي الالتزام بإصلاح ما ترتب على ذلك الفعل حيال الدولة التي ارتكبت هذا الفعل ضدها أو ضد رعاياها "( ).
ويعرفها آخر بأنها: " نظام قانوني يترتب بموجبه على الدولة التي ارتكبت عملاً يحرمه القانون الدولي التعويض عن الضرر الذي لحق بالدولة المعتدى عليها"( ).
ويشير أحد الأساتذة أن المسئولية الدولية هي رابطة قانونية جديدة تنشأ في حالة الإخلال بالتزام دولي بين الشخص الذي أخل بالالتزام والشخص الذي تضرر نتيجة هذا الإخلال ويترتب على هذه الرابطة أن يلتزم الشخص بإزالة ما يترتب عن عمله من نتائج كما يحق للشخص المتضرر المطالبة بالتعويض( ).
ويعرف قاموس مصطلحات القانون الدولي المسئولية الدولية بأنها: " الالتزام المفروض بمقتضى القانون الدولي على الدولة المنسوب إليها ارتكاب فعل أو امتناع مخالف لالتزاماتها الدولية بتقديم تعويض إلى الدولة المضرورة سواء في شخصها أو شخص أو أموال رعاياها "( ).
والملاحظ من مجمل هذه التعريفات والآراء أنه يلزم لتحقق مسئولية الدولة في إطار القانون الدولي توافر ثلاثة شروط:
أ- وجود إخلال بالتزام دولي.
ب- إسناد هذا الإخلال إلى الدولة.
ج- أن يترتب على هذا الإخلال ضرر جدي يلحق بشخص من أشخاص القانون الدولي أو برعاياه( ).
وهو ما يدفعني إلى التساؤل عما إذا كانت هذه الشروط تتحقق في إخلال الدولة بالتزاماتها الناشئة عن عقدها مع المستثمر الأجنبي؟
إذا تركنا الشرط الثاني وكذلك الشرط الثالث نظراً لكونهما لا يثيران مشاكل كثيرة في دراسة المسئولية الدولية فسنقتصر على مدى توفر الشرط الأول (وهو وجود عمل غير مشروع دولياً) في تصرف الدولة المضيفة.
وهنا أرى أن مجرد إخلال الدولة بالتزامها العقدي مع المستثمر الأجنبي لا يعتبر إخلالاً بالتزام دولي موجب لمسئوليتها طالما أنه لا يشكل في حد ذاته عملاً مكوناً لخطأ دولي( ). ذلك أن هذه العقود تخضع، كما أوضحنا فيما سبق، للقانون الوطني للدولة المتعاقدة مما يعني اختصاصه بتحديد ما إذا كانت الإجراءات التي قامت باتخاذها في مواجهة المستثمر الأجنبي المتعاقد معها مخالفة لهذا النظام القانوني أم متمشية معه، ومن ثم فإن القانون الدولي لا يمكنه أن يعتبر مسألة من المسائل مخالفة للقانون وفقاً للمعايير الخاصة بهذا القانون بينما تعد تلك المسألة من وجهة نظر القانون الواجب التطبيق عليها عملاً مشروعاً من الناحية القانونية.
وهكذا فإن مجرد مخالفة العقد من جانب الدولة لا يؤدي إلى ترتيب مسئوليتها الدولية، وإنما يتعين لتحقق هذه المسئولية وبالتالي إمكان مقاضاتها دولياً ضرورة أن يكون هذا الإخلال مقترناً بخطأ تعسفي أو جسيم. أي أن المصدر المحرك لمسئولية الدولة - كما يرى البعض بحق - ليس هو الإخلال بالعقد وإنما وجود فعل غير مشروع مستقل عن العقد( ). فإذا ارتكبت الدولة هذا الفعل الغير مشروع دولياً الذي تترتب عليه مسئوليتها الدولية فإنه يمكن حينئذ مقاضاتها دولياً، أما مجرد إخلالها بتنفيذ التزامها التعاقدي فلا يترتب عليه مسئوليتها الدولية. فإذا توافرت أركان المسئولية الدولية في تصرف الدولة المضيفة للاستثمار فإن التساؤل يثور عن الآلية القانونية لتحريك هذه المسئولية الدولية ؟.
ثانياً- الحماية الدبلوماسية وسيلة لتحريك مسئولية الدولة المضيفة عن عملها غير المشروع دولياً تجاه المستثمر الأجنبي:
أوضحنا أن المسئولية الدولية هي علاقة بين أشخاص القانون الدولي. لذلك فإن المستثمر الأجنبي، وهو فرد عادي لا يتمتع بالشخصية الدولية( )، لا يملك حق المطالبة الدولية لإصلاح ما يصيبه من ضرر نتيجة لقيام الدولة المضيفة بتصرف غير مشروع دولياً.
وقد نصت المادة 34/1 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية أن الدول وحدها هي التي من الممكن أن تكون أطراف القضايا التي تنظر فيها المحكمة( ). وهو ما يعني أن المستثمر الأجنبي، وهو فرد عادي، لا يملك بصفته هذه حق المثول مباشرة أمامها لكونه لا يتمتع بالشخصية الدولية.
لذلك فإن السبيل الوحيد أمام المستثمر الأجنبي لولوج القضاء الدولي للمطالبة بحقوقه في مواجهة الدولة المضيفة هو أن يلجأ إلى الدولة التي يحمل جنسيتها لتتبنى مطالبته. حيث يعترف الفقه( ) وكذلك العديد من أحكام القضاء الدولي( ) بأن لكل دولة حق ثابت ومصلحة مؤكدة في أن ترى حقوق ومصالح رعاياها محترمة ومكفولة من جانب الدول الأخرى، وبالتالي أهليتها في رفع دعوى المسئولية الدولية إذا حصل اعتداء على حقوق ومصالح رعاياها نتيجة مخالفة دولة أخرى لأحكام وقواعد القانون الدولي. ويطلق على هذه الوسيلة التي بموجبها تتولى دولة ما تحريك المسئولية الدولية في مواجهة دولة أخرى ألحقت الضرر برعاياها انتهاكاً لقواعد القانون الدولي مصطلح دعوى الحماية الدبلوماسية.
والتي يمكن تعريفها بأنها وسيلة قانونية من وسائل القانون الدولي بمقتضاها تقوم الدولة التي لحق الضرر برعاياها بتحريك المسئولة الدولية تجاه الدولة التي سببت هذا الضرر بعملها غير المشروع دولياً وذلك حماية لرعاياها إذا لم يتمكنوا من الحصول على حقوقهم بالطرق القضائية الداخلية( ).
وتتأسس الحماية الدبلوماسية بهذا المفهوم على أن ما يلحق الفرد من إضرار بمصالحه أو حقوقه إنما يمثل في نفس الوقت إضراراً بمصالح الدولة التي يحمل جنسيتها سواء من الناحية الاقتصادية أو السياسية أو المعنوية( ).
وهكذا فإنه يلزم لرفع دعوى الحماية الدبلوماسية توافر شرطين: أ- أن يكون المستثمر المضرور متمتعاً بجنسية الدولة التي تريد ممارسة الحماية. ب- أن يكون المستثمر المضرور قد استنفد طرق التقاضي الداخلية المنصوص عليها في قانون الدولة المدعى عليها( ).
أ- شرط الجنسية في دعوى الحماية الدبلوماسية:
من المستقر عليه في قواعد القانون الدولي أنه يشترط لممارسة الحماية الدبلوماسية من جانب دولة ما أن يتمتع المضرور بجنسيتها( ). ذلك أن رابطة الجنسية بين المضرور والدولة هي التي تخول الدولة الصفة في رفع دعوى المسئولية الدولية، وتوفر بالتالي شرط المصلحة اللازم لقبول تلك الدعوى( ).
فيشير أحد الأساتذة في هذا الخصوص إلى أنه: " من الوظائف العادية للجنسية أنها تعطي الدولة المصلحة القانونية، فعندما يلحق الرعايا ضرر أو خسارة بفعل دولة أخرى ولم تستطع هذه الدولة إثبات جنسية الطالب، فإن الطلب يكون غير مقبول بسبب غياب أية مصلحة قانونية لهذه الدولة "( ).
وقد استلزم القضاء الدولي صراحةً أن يكون المضرور منتمياً بجنسيته إلى الدولة التي تطلب حمايته دبلوماسياً، فقد أعلنت المحكمة الدائمة للعدل الدولي عام 1939 بشأن النزاع بين استونيا وليتوانيا أنه: " ما لم يوجد اتفاق أو معاهدة تنص على حكم مخالف، فإن رابطة الجنسية بين الدولة والفرد هي وحدها التي تمنح الدولة حق الحماية الدبلوماسية "( ).
وعلى هذا النحو فإن المستثمر المضرور لا يمكنه الاستفادة من الحماية الدبلوماسية إلا إذا كان منتمياً بجنسيته إلى الدولة التي يطلب حمايتها، فالدولة يجب أن تكون لها صفة تبرر تدخلها لصالح الشخص المضرور، سواء أكان شخصاً طبيعياً أم اعتبارياً. لأن الدولة الوطنية عندما تقوم بممارسة حمايتها فهي تضع نفسها في إطار القانون الدولي، والقانون الدولي هو الذي يحدد الصفة لممارسة الحماية، وهي صفة لا تكتسبها الدولة إلا عندما ينتمي إليها المضرور بجنسيته( ).
ويثور التساؤل هنا بصدد تطبيق شرط الجنسية عن مواصفات الجنسية اللازمة لممارسة الحماية الدبلوماسية، فهل يكفي أن يكون المضرور منتمياً بجنسيته إلى الدولة التي تريد حمايته دبلوماسياً ولو كان هذه الانتماء صورياً أم يلزم أن يكون انتماؤه فعلياً بحيث تعبر جنسيته عن ارتباطه الواقعي بالدولة التي تريد حمايته؟
بدايةً فإن هذا التساؤل في اعتقادنا لا محل له إذا كان المضرور لا يحمل سوى جنسية دولة واحدة، إذ يجب السماح لهذه الدولة بحمايته أمام القضاء الدولي حتى ولو لم تقم رابطة الجنسية بينه وبين هذه الدولة على أسس واقعية. لأن القول بخلاف ذلك يؤدي، كما يرى البعض( ) وبحق، إلى إهدار حق الفرد وتجريده من كل وسائل الحماية القانونية ويجعله في وضع يشبه معدوم الجنسية.
ولكن تبدو أهمية تحديد مواصفات الجنسية اللازمة لممارسة الحماية الدبلوماسية في حالة كون المستثمر المضرور متعدد الجنسيات. أي متمتعاً بجنسية أكثر من دولة في ذات الوقت. وذلك لتحديد المعيار الذي يعول عليه القضاء الدولي لقبول دعوى الحماية الدبلوماسية في حالة ادعاء كل دولة من الدول التي يحمل المستثمر المضرور جنسيتها شموله بالحماية الدبلوماسية، وكذلك فيما إذا كان ممكناً تحريك دعوى الحماية الدبلوماسية إذا كان المضرور متمتعاً في وقت واحد بجنسية كل من الدولة الشاكية والدولة المشكو منها.
لقد ساد في البداية ما يسمى بمبدأ المساواة في السيادة بين الدول، والذي ينكر على القضاء الدولي الحق في الترجيح بين الجنسيات التي يحملها الشخص المضرور( ). حيث يكون من حق كل دولة من الدول التي يحمل المستثمر جنسيتها التصدي لحمايته، وذلك استناداً إلى تكافؤ سيادات كل الدول التي يحمل الفرد جنسيتها لأن ترجيح إحداها يتضمن إهداراً لسيادة الدول الأخرى وهذا لا يجوز.
وهو ما يعني الفشل في حسم التنازع الناجم عن مشكلة تعدد الجنسيات. إذ أن من شأن إعمال المبدأ المذكور أنه لا يجوز لإحدى الدول التي يتمتع الشخص بجنسيتها أن تتصدى لحمايته في مواجهة دولة أخرى من الدول التي ينتمي إليها متعدد الجنسية. لأنه استناداً إلى مبدأ المساواة في السيادة بين الدول فإنه من غير المقبول تفضيل دولة على أخرى في تحريك دعوى المسئولية وتكون في وضع المدعى وتتراجع الثانية إلى وضع المدعى عليه المنتهك لقواعد القانون الدولي( ). وهو ما أكدته محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري بشأن التعويض عن الأضرار المتعلقة بالخدمة في الأمم المتحدة في عام 1949 حيث أعلنت: " إن الممارسة العادية للحماية الدبلوماسية هي أن الدولة لا تمارس هذه الحماية لصالح أحد رعاياها إزاء دولة أخرى تعده مواطناً لها"( ).
وقد برز اتجاه جديد في تحديد الجنسية اللازمة لممارسة الحماية الدبلوماسية يستلزم في الجنسية التي ينتمي بها المضرور إلى الدولة المدعية أن تعبر عن ارتباط فعلي (اجتماعياً واقتصادياً وروحياً) بين الدولة والمتمتع بجنسيتها، وهو ما يطلق عليه مبدأ الجنسية الفعلية Effective Nationality. فممارسة الدولة لحمايتها الدبلوماسية تستلزم أن تكون الجنسية التي ينتمي بها المضرور إلى الدولة المدعية جنسية واقعية لا جنسية صورية، لذلك قيل بأن الواقعية هي الأساس الوحيد الذي يسمح بالاحتجاج بالجنسية في مجال الحماية الدبلوماسية( ).
وهو المبدأ الذي أكده القضاء الدولي، إذ قضت محكمة العدل الدولية في قضية Nottebohm بين لشيتنشتاين وجواتيمالا سنة 1955 بأنه لا يمكن الاعتراف بالجنسية من قبل الدول الأخرى واستخدامها كسند قانوني لممارسة الحماية الدبلوماسية إلا إذا كانت فعلية، أي تمثل رابطة حقيقية بين الفرد الدولة. حيث أعلنت المحكمة بأن الجنسية هي: " الرابطة القانونية التي تجد أساسها في الواقع الاجتماعي للانتماء، وفي تضامن واقعي في المعيشة والمصالح والمشاعر، فهي تقوم على حقوق وواجبات متبادلة "( ).
ومن جانبنا فإننا، وأمام سلبية الاتجاه الأول في حسم التنازع الناشىء عن تعدد الجنسيات، نؤيد تطبيق معيار فعلية الجنسية للترجيح بين الجنسيات التي يرتبط بها الشخص. وهو ما يقود إلى عدة نتائج:
1- إذا تنازعت عدة دول يتبعها المستثمر المضرور بجنسيته بشأن التصدي لحمايته دبلوماسياً أمام القضاء الدولي في مواجهة الدولة المضيفة، فإن دعوى الحماية الدبلوماسية أمام القضاء الدولي لن تقبل إلا من الدولة التي يتمتع المستثمر طالب الحماية بجنسيتها الفعلية.
2- خلافاً لما كان سائداً قبل ظهور مبدأ الجنسية الفعلية، من أنه لا يجوز للدولة أن تمارس حمايتها الدبلوماسية لصالح أحد رعاياها إزاء دولة أخرى يكون هذا الشخص في ذات الوقت متمتعاً بجنسيتها إعمالاً لمبدأ المساواة في السيادة بين الدول، فإنه يمكن قبول دعوى الحماية الدبلوماسية إذا كانت الجنسية التي تربط الدولة الشاكية بطالب الحماية جنسية فعلية، أما إذا كان هذا الشخص ينتمي بجنسية فعلية إلى الدولة التي سببت الضرر فإن هذه الدعوى لن تقبل.
ب- شرط استنفاد الطرق القضائية الداخلية المتاحة في الدولة المضيفة:
لا يكفي لممارسة الدولة دعوى الحماية الدبلوماسية بالنيابة عن المستثمر الأجنبي المضرور أن يكون هذا المستثمر متمتعاً بجنسيتها، وإنما يتعين أيضاً أن يكون المستثمر المضرور قد سبق له أن استنفد دون نجاح جميع الوسائل المقررة لإصلاح الضرر في تشريع الدولة المضيفة. بمعنى أن المستثمر المضرور مطالب قبل التماس الحماية الدبلوماسية من دولته التي يتبعها بجنسيته أن يلجأ إلى كل وسائل الإصلاح المحلية في الدولة المضيفة وأن يفشل في إصلاح ضرره وفقاً لذلك( ). إذ أن مبدأ السيادة والاستقلال الوطني يعطي لكل دولة الحق في اشتراط خضوع الأجانب لنظامها القانوني الداخلي، وبالتالي فإنه يكون من غير المقبول على الإطلاق أي تدخل أجنبي قبل استنفاد وسائل الإصلاح المتاحة في النظام القانوني الوطني( ). كما يساعد اشتراط استنفاد وسائل الإصلاح المقررة في الدولة المضيفة قبل اللجوء إلى الحماية الدبلوماسية في الحفاظ على العلاقات الودية بين الدول ويحول دون إثارة المنازعات التي يترتب عليها تحريك المسئولية الدولية التي تؤدي في أحيان كثيرة إلى نزاع مسلح أو تهديد للسلم والأمن الدوليين. ولا شك ان تلافي الخلافات الدولية وتقليل عدد الدعاوى التي ترفعها الدول بعضها على بعض فيه مصلحة محققة للمجتمع الدولي بأسره( ).
وأشير في ختام هذا الفرع إلى أن اللجوء إلى الحماية الدبلوماسية في تسوية منازعات الاستثمار قد أسفر عن نتائج مخيبة للآمال( )، وتجلى ذلك على وجه الخصوص في نزاعين شهيرين تم اللجوء فيهما إلى الحماية الدبلوماسية لتسوية النزاع القائم هما:
الأول هو قضية البترول الأنجلو إيرانية( ) حينما لجأت المملكة المتحدة إلى تطبيق الحماية الدبلوماسية في عام 1950-1951 حتى تثبت المسئولية الدولية للحكومة الإيرانية عن تأميم الشركة الإنجليزية – الإيرانية للبترول وذلك من خلال اللجوء المباشر إلى محكمة العدل الدولية.
والثاني هو ما عرف بقضية برشلونة تراكشن( ) حينما رفعت كل من الحكومة الكندية والحكومة البلجيكية دعوى أمام محكمة العدل الدولية لحماية مصالح المستثمرين الكنديين والبلجيكيين الذين تكبدوا الكثير من الخسائر نتيجة للأعمال والإجراءات التي اتخذتها الحكومة الأسبانية في مواجهتهم.
وقد كان الفشل في تسوية النزاع في هاتين القضيتين بمثابة النهاية لتلك المرحلة في تسوية منازعات الاستثمار، والتي تميزت بالتدخل المباشر من جانب الدول القائمة بالاستثمارات لحماية مصالح رعاياها، وذلك لتحل محلها منذ منتصف القرن العشرين تقريباً مرحلة جديدة في تسوية منازعات الاستثمار تمثلت في الإجراءات المباشرة بين المستثمر ذاته وحكومة الدولة المضيفة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق